Farsi    Arabic    English   
مقدمة الطبعة الألمانية الأولى - بقلم فريديريك انجلز

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

مقدمة


لقد كان برودون سيئ الحظ لأن سكان أوروبا لم يفهموه. لقد قيل عنه في فرنسا أنه كان اقتصاديا فاشلا لأنه كان معروفا أنه فيلسوف ألماني. ولقد قيل عنه في ألمانيا أنه كان فيلسوفا فاشلا لأنه كان يعد من أقدر الاقتصاديين الفرنسيين، وبما أنه كان ألمانيا واقتصاديا في نفس الوقت، لذلك نرغب أن نحتج على هذا الخطأ المزدوج.

سيفهم القارئ أننا كنا في هذا الكتاب مجبرين أن نترك انتقاد برودون جنبا لنلتفت إلى الفلسفة الألمانية وننقدها، ولنقدم في نفس الوقت بعض الملاحظات التي تتعلق بالاقتصاد السياسي.

كارل ماركس
بروكسل ١٥ حزيران - ١٨٤٧



إن كتاب برودون ليس فقط أطروحة عن الاقتصاد السياسي، وليس هو كتابا عاديا، بل هو كتاب مقدس Bible «إنه أعاجيب» «وأسرار انتزعها من صدر الله» إنه «وحي» لأن هذا الكتاب لا يحتاج لشيء، وبما أننا ندرس وننتقد الأنبياء في أيامنا الحاضرة بإمعان شديد أكثر مما ننتقد الأنبياء في أيامنا الحاضرة بإمعان شديد أكثر مما ننتقد الكتاب المقدس، لذلك على القارئ أن يسير معنا في زوايا «سفر التكوين» Genesis المظلمة حتى يقدر أن يفهم برودون وينزل معه إلى حلم برودون الأرضي الذي كونه لأجل الاشتراكية العليا Super-Zocialism (اقرأ برودون، فلسفة الفقر، المقدمة صفحة ١١١ سطر ٢٠.)

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

اكتشاف علمي
تناقض معنى قيمة الانتفاع وقيمة التبادل


«إن مقدرة كل المنتوجات، المنتوجات الطبيعية أو الصناعية، التي لها علاقة والتي هي ذات نفع عام لوجود الإنسان تحدد بقيمة الانتفاع، ومقدرة هذه المنتوجات أن تتبادل مع بعضها تتحدد بقيمة التبادل... وكيف تصبح قيمة الانتفاع قيمة تبادل؟ إن تكوين فكرة قيمة التبادل، لم تلق عناية كافية من الاقتصاديين فمن الضروري إذن أن ندرسها وبما أن عددا كبيرا من الأشياء التي احتاجها موجود في الطبيعة بكميات معتدلة أو بكميات قليلة جدا أو أنها غير موجودة إطلاقا، فأنا مجبر أن أعمل لإنتاج ما أحتاجه. وبما أنني لا أقدر على إنتاج أشياء كثيرة، فإنني أعرض على أناس غيري – أناس هم مساعدون لي في عوامل كثيرة ومتنوعة – أن يسلموني قسما من إنتاجهم وأسلمهم قسما من إنتاجي نتيجة للتبادل» برودون المجلد ١، الفصل ١١.

يتعهد برودون أن يشرح لنا قبل كل شيء طبيعة القيمة الازدواجية أي «التمييز في القيمة» ويتعهد أن يشرح لنا عملية تحويل قيمة الانتفاع إلى قيمة تبادل، فمن المهم إذن أن نشارك برودون في هذا التحويل. وما سيكتسب الآن هو كيفية تكميل هذا العمل بالنسبة لمؤلفنا.

إن عددا كبيرا من المنتوجات لا توجد في الطبيعة، بل هي منتوجات الصناعة وإذا كانت حاجيات الإنسان تتطلب أكثر من إنتاج الطبيعة لذلك فهو مجبر أن ينتج بواسطة الصناعة. وما هي هذه الصناعة بنظر برودون؟ وما هو أصلها؟ إن شخصا واحدا يشعر أنه بحاجة أن يحصل على أشياء كثيرة «لا يقدر أن ينتج أو يحصل على هذه الأشياء الكثيرة». ولكي نشبع حاجات كثيرة يعني افتراض أشياء كثيرة للإنتاج – ولا توجد منتوجات بدون إنتاج. ولا نتاج أشياء كثيرة يعني افتراض وجود أكثر من يد رجل واحد لتساعد على إنتاجها، لا بد أن يُفرض حالا إنتاج كامل قائم على تقسيم العمل، وهكذا فالحاجة كما يفترضها برودون تفترض التقسيم الكلي للعمل. ولدى افتراضك تقسيم العمل فإنك تحصل على التبادل. وكنتيجة تحصل على قيمة التبادل فالمرء يمكنه أن يكون قد افترض قيمة الانتفاع في البداية.

لكن برودون يفضل أن يدور حول الموضوع، والآن لنتبعه في كل دوراته التي ترجعه دوما إلى النقطة التي ابتدأ منها.

حتى أستطيع أن أتخلص من الحالة التي ينتج فيها كل شخص بمفرده لأصل إلى التبادل «على أن أدعو رفاقي ومساعديّ لأعمال متنوعة» هذا ما يقوله برودون فأنا إذن عندي مساعدين يقومون بأعمال مختلفة. ورغم كل هذا، فأنا وكل الآخرين، بالنسبة لافتراضات برودون، لا نكون قد كونّا إلا اشتراكية روبنسون كروزوإن وجود مساعدين غيري، ووجود الأعمال المتنوعة، ووجود تقسيم العمل والتبادل، يمكن الحصول عليها.

ولنستخلص ما قيل: أنا عندي بعض الحاجات التي تقوم على تقسيم العمل وعلى التبادل، وعندما اسبق وافترض هذه الحاجات يكون برودون قد سبق وافتراض التبادل، وهذا هو ما يهدف إليه «أن يلاحظ تكوين هذه الفكرة باعتناء أكثر مما اعتنى بها الاقتصاديون».

كان يقدر برودون أن يحول ويقلب نظام الأشياء دون أن يبدل ويغير دقة نتائجه. فلكي نشرح قيمة التبادل يجب أن يكون عندما تبادل. ولنشرح التبادل يجب أن يكون عندنا تقسيم العمل، ولنشرح تقسيم العمل يجب أن يكون عندنا حاجات تجعل تقسيم العمل ضروريا. ولنشرح هذه الحاجات يجب أن نسبق ونفترضها، إننا لا ننكرها – وهذا التحليل يناقض القاعدة الأولى في مقدمة برودون والتي تقول «لكي نسبق ونفترض وجود الله يعني نكرانه» المقدمة صفحة ١.

فكيف يقدر برودون وهو يقر بتقسيم العمل وكأنه شيء معروف أن يشرح قيمته التبادلية، هذه القيمة التي هي مجهولة دائما بالنسبة له؟

«إن رجل» يبتدئ «ويقترح على الرجال الآخرين أي مساعديه في أمور وأعمال أخرى» بأن يؤسسوا التبادل، أن يميزوا بين القيمة العادية وقيمة التبادل، ولدى قبول هذا التمييز المقترح نرى أن المساعدين الآخرين لم يتركوا لبرودون إلا أن يسجل الواقع وأن يؤكد ملاحظته في بحثه للاقتصاد السياسي «تكون فكرة القيمة». ولكن عليه أن يشرح لنا «تكوين» اقتراحه ويخبرنا أخيرا كيف يقدر الفرد وحده (روبنسون كروزو) أن يقترح فجأة على مساعديه ورفاقه ما مر معنا وكيف قبل هؤلاء المساعدون الفكرة بدون أي احتجاج؟

إن برودون لا يدخل في صلب هذه التفاصيل، ولكن ما يعمله هو أن يضع طابعا تاريخيا على واقع التبادل ليضعه بشكل حركة يقوم بها فريق ثالث لكي يتم تأسيس التبادل.

إن هذا نموذج عن «الطريقة التاريخية والوضعية» عند برودون الذي يعلم ويبشر باحتقار «الطرق التاريخية» عند ريكاردو وآدم سميث.

إن التبادل له تاريخ خاص به ولقد مر بأطوار مختلفة.

لقد مر وقت كالعصور الوسطى مثلا، عندما كان يتم التبادل نتيجة للزيادة التافهة التي كانت تطرأ لجهة الإنتاج على الاستهلاك.

وقد مر وقت أيضا عندما أصبح التبادل – كل المنتوجات وكل الوجود الصناعي – تحت تصرف التجارة أو كان الإنتاج تعتمد على التبادل. فكيف نقدر أن نفسر هده الخطوة الثانية للتبادل – القيمة الموجودة في السوق مرفوعة للقوة الثانية؟

لقد أجاب برودون بسرعة على كل هذا: لنفترض أن رجلا «اقترح على رجال آخرين مساعديه في أعمال متنوعة» أن يرفعوا القيمة الكائنة في السوق إلى القوة الثانية.

وأخيرا أتى وقت نرى فيه كل شيء كان يحسبه المرء غريبا قد أصبح يخضع للتبادل وأصبح واسطة للنقل أو أصبح غريبا عليه. وهذا هو الوقت الذي كانت فيه كل الأشياء تخضع للانتقال من شخص لشخص ولكنها لا تخضع للتبادل وكانت تعطى ولا تباع. وكان يحصل عليها ولكن لا تشترى وهذه الأشياء كانت الفضيلة والمحبة والمعرفة والضمير الخ.. وكان الوقت عندما أصبح كل شيء يخضع للتجارة، أنه وقت الفوضى العامة ووقت التأخير، إنه الوقت عندما أصبح لكل شيء – أخلاقي أو مادي – قيمة تخضع لعوامل السوق. فأصبحت هذه المفاهيم الجميلة تخضع لتأثيرات السوق وتنال قيمتها في السوق.

فكيف نقدر أن نشرح هذه الفكرة الجديدة والأخيرة للتبادل – أي القيمة الخاضعة للسوق ومرفوعة للقوة الثالثة.

يجيب برودون بسرعة على هذا: لنفترض أن شخصا اقترح على أشخاص آخرين، إلى مساعديه في أعمال متنوعة، أن يجعلوا من المحبة والفضيلة الخ... قيمة سوق أي قيمة تخضع لتقلبات السوق وأن يرفعوا قيمة التبادل للقوة الثالثة أي القوة الأخيرة.

نحن نرى أن «طريقة برودون التاريخية والوصفية» تطبق على كل شيء وتجيب على كل شرح وتشرح كل شيء، فإذا كانت طريقه، علاوة على كل شيء، تستعمل لشرح «تكوين الفكرة الاقتصادية» تاريخيا فهي تقول أن الرجل الذي يقترح على رجال آخرين «مساعديه في أعمال متنوعة» أن يكملوا هذا التكوين، ولدى تكميله يحققون هدف العمل.

نحن علينا أن نقبل «تكوين» فكرة قيمة التبادل كعمل تام وكامل، ويبقى علينا الآن أن نعرض العلاقة بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. ولنستمع لما يقوله برودون:

«لقد بحث الاقتصاديون جيدا المفهوم الازدواجي للقيمة، لكنهم لم يشيروا بدقة إلى طبيعة القيمة المتناقضة، ومن هنا يبتدئ نقدنا.. إن المقارنة بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل شيء بسيط، ولم ير الاقتصاديون بهذه المقابلة إلا عملية بسيطة: لكن نحن نظهر أن هذه البساطة تطوى في ثناياها عجيبة عميقة من واجبنا أن نتعمق ونخترقها... ولكي نضع الكلام بأشكال علمية نقول أن قيمة التبادل وقيمة الانتفاع هما في نسبة معاكسة الواحدة للأخرى».

فإذا كنا قد تفهمنا فكرة برودون نجد أنه يحاول أن يظهر أربع نقاط:

١– أن قيمة الانتفاع وقيمة التبادل يشكلان «مقارنة عجيبة» إنهما تناقضان بعضهما.

٢– أن قيمة الانتفاع وقيمة التبادل تتناقضان بنسبة معاكسة لبعضهما.

٣– لم يذكر الاقتصاديون ولم يلاحظوا هذا التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل.

٤– إن نقد برودون يبتدئ في نهايته.

ونحن سنبتدئ في النهاية، ولكي نبرر موقف الاقتصاديين من اتهامات برودون سنستمع لكلام اقتصاديين معروفين جيدا.

سيسموندي Sismondi: إن التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل هو الذي نقـّص قيمة كل شيء، (كتابه: دراسات). Etudes, Vol 2, P. 162. Brussels Edition

لوردردال Laurderdale: نرى نسبيا أن غنى الأفراد يزداد بزيادة قيمة السلع وتنخفض ثروة المجتمع وعندما تنقص نسبيا مجموعة الثروات الفردية، ولدى تخفيض وتنقيض قيمة السلعة يزداد الغنى «يكثر». كتابه: دراسات عن أصل وطبيعة الثروة العامة. Recherches sur la nature et L'origine de la richesse publique. Paris 1808 P. 33.

يعترف سيسموندي من جراء بحثه للتناقض بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع أن انخفاض الواردات يتناسب مع زيادة الإنتاج.

لقد أسس لودرال طريقته على التعاكس النسبي بين نوعي القيمة. وكان مبدؤه شعبيا زمن ريكاردو حتى أن ريكاردو نفسه استطاع أن يتكلم عن هذا المبدأ وكأنه شيء معروف. تزيد الثروة في التفريق بين القيمة والثروة وبتنقيص كمية السلع أي الأشياء الضرورية والمناسبة والممتعة لحياة البشر، ريكاردو في كتابه: مبادئ الاقتصاد السياسي. Recardo, Principes de l'économie politique, Paris 1835 Vol 2.

لقد رأينا الآن أن الاقتصاد قبل برودون يتكلمون عن التناقص بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. ولننظر الآن كيف يشرح برودون هذا التناقض.

إن قيمة التبادل لمنتوج تنخفض عندما يزداد العرض وعندما يبقى الطلب كما كان، أي أنه كلما كان الإنتاج غزيرا بالنسبة للعرض كلما انخفضت قيمته التبادلية أي كلما انخفض سعره. والعكس بالعكس. وكلما قل العرض بالنسبة للطلب كلما ارتفعت قيمة التبادل أو المنتوج المعروض: أي كلما قل عرض المنتوجات بالنسبة للطلب كلما ارتفعت الأسعار. إن قيمة التبادل لإنتاج معين يعتمد على كثرته أو قلته ويكون دوما متعلقا بالنسبة للطلب. خذ منتوجا ليس كثيرا ولا قليلا واجعله فريدا من نوعه، تجد أن هذا المنتوج يكون أغزر وأكثر إذا لم يكن هناك طلب عليه. ومن الناحية الأخرى، خذ منتوجا ينتج بالملايين، فإنك ستعده نادرا وقليلا إذا لم يكن كافيا لإشباع الطلب أي إذا كان الطلب كثيرا عليه.

هذه كلها تعد حقائق ثابتة، ورغم هذا نعيدها حتى نسهل فهم أعاجيب وأسرار ألغاز برودون.

«وهكذا إذا تبعنا المبدأ حتى نتائجه الأخيرة فإننا سنصل إلى النتيجة المنطقية وهي، أن الأشياء التي لا يستغنى عن استعمالها والتي لا تحد كمياتها يمكن الحصول عليها بلا شيء، والأشياء ذات النفع القليل والتي تمتاز بندرتها وقلتها تكون ذات قيمة لا تعد ولا تحصى. ولكي تتغلب على الصعوبات نقول أن هذه الأقوال المتطرفة ليست واقعية: فمن جهة لا نجد إنتاجا بشريا يمكن أن يكون غير محدود الطاقة ومن جهة ثانية نجد أن أقل الأشياء ندرة يجب أن تكون نافعة لدرجة ما وإلا لكانت عديمة النفع. قيمة الانتفاع وقيمة التبادل مرتبطتان ببعضهم». المجلد الأول صفحة ٩٣

ماذا نفعل بالصعوبات التي تتعلق ببرودون؟ لقد نسي كل ما يتعلق بالطلب وأن الشيء يكون نادرا أو عزيزا إذا كان مطلوبا. وعندما يترك فكرة الطلب يقول أن قيمة التبادل تعني الندرة أو القلة، ونراه يقول أن قيمة الانتفاع تعني الغزارة أو الكثرة. وفي الواقع عندما نقول أن الأشياء «التي منفعتها عدم وقليلة تمتاز بقيمة لا تحصى» نصرح أن قيمة التبادل تكون نادرة. «الندرة والقلة القصوى ينقصها لا شيء» تعني الندرة أو القلة. «القيمة التي لا تعد» هي أعلى من قيمة التبادل، وهي قيمة تبادل. وهو يعادل بين هاتين الحالتين. وهكذا نرى أن قيمة التبادل والندرة هي شروط واحدة متعادلة، وعندما نصل لهذه النتائج المتطرفة نجد برودون يحمل هذه التعابير إلى أقصاها ولكنه لا يحمل الحقائق إلى أقصاها، وهكذا يبرهن على بلاغته ولكنه لا يبرهن عن منطقه. إنه يكتشف من جديد اقتراحاته الأولى مجردة عن الواقع بينما يفكر أنه قد اكتشف نتائج جديدة. ونحن نشكره لأنه عني بقيمة التبادل ما عناه بالغزارة أو بالكثرة.

بعد أن رأينا قيمة التبادل والندرة متعادلتين في المعنى، وأن قيمة الانتفاع والغزارة متعادلين في المعنى، نجد أن برودون يدهش لأنه لا يجد أن قيمة الانتفاع تعادل الندرة وقيمة التبادل ولا يجد أن قيمة التبادل تعني الغزارة وقيمة الانتفاع، وإذ يرى أن هذه الأضداد يستحيل تطبيقها لذلك لا يجد مفرا إلا الالتجاء للألغاز. إن القيمة التي لا تحد موجودة بالنسبة له، وهذا لأن الشارين غير موجودين ولأنه لا يجد شارين طالما أنه لا يهتم ولا يأخذ الطلب بعين الاعتبار.

ونجد من جهة أخرى أن الغزارة في نظر برودون تبدو كأنها شيء داخلي. فهو ينسى أنه يوجد أناس ينتجونها ومن مصلحتهم ألا يهملوا الطلب، وإلا فكيف يستطيع برودون أن يقول أن الأشياء التي هي نافعة جدا يجب أن يكون لها سعر منخفض جدا أو أنها لا تكلف شيئا؟ فعلى العكس، عليه أن يستنتج أن الغزارة أي أن إنتاج الأشياء النافعة جدا يجب أن ترتبط بأسعارها، ولذلك يجب رفع قيمتها التبادلية.

كان زارعو الكرمة الفرنسيون يطلبون قانونا يمنع غرس الكرمة الجديدة. وكان الهولنديون يطلبون أن يحرقوا التوابل الآسيوية! إن هؤلاء كانوا يحاولون أن يقللوا الغزارة أي الكثرة حتى يرفعوا قيمة التبادل. وكان يعمل بهذا المبدأ طوال القرون الوسطى، هذا المبدأ الذي كان يحدد بواسطة القوانين عدد الشغيلة المياومة، الذين كان المعلم يشغلهم وكان يحدد عدد الآلات التي يمكن استعمالها (راجع اندرسون، تاريخ التجارة).

بعد أن مثلنا الغزارة بقيمة الانتفاع والندورة بقيمة التبادل – ولا شيء أسهل من البرهان على أن الغزارة والقلة هما نسبتان متعاكستان – نجد برودون يعني أن قيمة الانتفاع هي العرض وأن قيمة التبادل هي الطلب. ولكي يظهر وجه التعاكس بصورة أوضح فإنه يستعيض عنها بتعبير جديد، يستعمل «قيمة التقدير» Estimation Value عوضا من قيمة التبادل. لقد انتقلت المعركة الآن من موضعها وأصبح عندنا من جهة المنفعة (قيمة الانتفاع، والعرض) ومن جهة ثانية عندنا التقدير (قيمة التبادل والطلب).

ومن يقدر أن يصالح هاتين القوتين المتناقضتين؟ وماذا نقدر أن نعمل ليتفقا؟ وهل نقدر أن نجد فيهما ولو نقطة للمقابلة؟

«بالتأكيد» يصرخ برودون «توجد طريقة واحدة وهي، (الإرادة الحرة) والسعر الذي نستخلصه من المعركة بين العرض والطلب، بين المنفعة والتقدير ليس إلا تعبيرا للعدالة الأبدية».

ويتابع برودون ليكمل تعاكساته:

«بمقدرتي كتاجر أن أكون قاضيا لحاجاتي، قاضيا لاختار الشيء، قاضيا للسعر الذي أريد أن أدفعه ومن جهة ثانية، بمقدرتك كمنتج حر أن تكون سيد وسائل التنفيذ وكنتيجة تحصل على السلطة التي تساعدك على تخفيف مصاريفك» المجلد ١، صفحة ٤١.

وبما أن الطلب أو قيمة التبادل تعني التقدير نجد برودون يقول:

«من المبرهن أن حرية الإرادة عند الإنسان هي التي تخلق التناقض بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. فكيف نقدر أن نقضي على هذا التناقض طالما أن الإرادة الحرة موجودة وكائنة؟ وكيف نضحي بالأخيرة (أي الإرادة الحرة) دون أن نضحي بالإنسانية». المجلد ١، صفحة ٤١.

وهكذا لا نجد منفذا. يوجد صراع بين قوتين لا تتعادلان صراع بين المنفعة والتقدير. بين الشاري الحر والمنتج الحر.

والآن لننظر إلى الأشياء بإمعان أكثر.

إن العرض لا يمثل المنفعة تماما، والطلب لا يمثل التقدير تماما، ألا يعرض الطالب أيضا منتوجا هو النقد وكعارض لا يمثل بالنسبة لبرودون، المنفعة أو قيمة الانتفاع!

ألا يطلب العارض منتوجا، ألا يطلب العلامة التي تمثل كل المنتوجات وهي النقود؟ ألا يصبح عندئذ ممثل التقدير أي قيمة التقدير وقيمة التبادل؟

إن الطلب هو بحد ذاته العرض، والعرض بحد ذاته الطلب، وهكذا فإن تعاكس نظرية برودون – عندما يقارن العرض بالمنفعة والطلب بالتقدير – ليس إلا فكرة مجردة ضارة.

إن ما يدعوه برودون «قيمة الانتفاع» يدعوه الاقتصاديون «قيمة التقدير» وهم على حق بهذه التسمية. ونحن الآن نعود إلى ما يقوله ستورش Storch في كتابه دراسة الاقتصاد السياسي صفحة ٤٨ و٤٩.

تكون الحاجات بالنسبة لستورش أشياء نشعر أننا نحتاجها، وتكون أشياء تنسب لها القيمة أي أنها ذات قيمة. وهناك كثير من الأشياء التي لها قيم لأنها تشبع حاجات يخلقها التقدير. وتقدير حاجاتنا يمكن أن يتبدل، إذن منفعة الأشياء التي تعبر عن النسبة بين الأشياء يمكن أن تتبدل. إن الحاجات الطبيعية تتغير باستمرار والواقع أن الأشياء التي يحتاجها الشعب والتي يعدها مهمة تتغير دوما.

إن النزاع هنا لا يقوم بين المنفعة والتقدير بل يقوم بين القيمة في السوق التي يطلبها العارض وبين القيمة في السوق التي يعرضها الطالب. فقيمة المنتوج التبادلية تكون كل مرة حاصل هذه المتناقضات.

وفي تحليلنا الأخير نقول أن الطلب والعرض يخلقان الإنتاج والاستهلاك – الإنتاج والاستهلاك المبنيين على التبادل الفردي.

إن المنتوج المعروض لا يكون نافعا بحد ذاته، فالمستهلك هوالذي يحدد منفعته. وحتى لو كانت منفعة المنتوج قائمة فليس من الضروري أن تتمثله المنفعة ولقد تبدلت هذه المنفعة خلال الإنتاج بتكاليف الإنتاج، فالمواد الأولية وأجور العمال وهذه كلها تؤلف قيم السوق. فالإنتاج إذن يمثل في نظر المنتج مجموع القيم التي ستعرض في السوق. وما يعرضه المنتج لا يكون شيئا نافعا بل يكون فوق كل شيء قيمة تفرض في السوق.

وفيما يتعلق بالطلب، يكون الطلب ذا تأثير في الأحوال التي تتم فيها وسائل التبادل. وتؤلف هذه الوسائل بحد ذاتها المنتوجات نفسها، وقيمة السوق.

وفيما يتعلق بالطلب والعرض، نجد من جهة منتوجا له تكاليف قيمة قيم السوق والحاجات لبيعه ومن جهة ثانية نجد الوسائل التي خلقت تكاليف قيم السوق، والرغبة في الشراء.

إن برودون يضع الشاري الحر أمام المنتج الحر، ويطبق عليهما أوصافا ميتافيزيقية. وهذا ما يجعله يقول: «من الواضح والمعروف أن الإرادة الحرة عند الإنسان هي التي تخلق التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل» المجلد ١، صفحة ٤١.

عندما ينتج المنتج في مجتمع قائم على تقسيم العمل وعلى التبادل (وهذا هو افتراض برودون) يجد نفسه مجبرا على البيع. إن برودون يجعل المنتج سيدا لوسائل الإنتاج، لكنه يوافق معنا أن وسائل الإنتاج هي منتوجات يحصل عليها من الخارج، وبالنسبة للإنتاج الحاضر لا يكون المنتج حرا في إنتاج الكمية التي يريدها. إن درجة تطور ونمو القوى الإنتاجية تجبره أن ينتج بالنسبة لمقياس معين.

والمستهلك لا يملك حرية أكثر من المنتج. وحكمه هذا يعتمد على وسائله وحاجاته – ووسائله وحاجاته تعتمد على مركزه الاجتماعي، ومركزه الاجتماعي يعتمد على التنظيم الاجتماعي الكامل. والواقع أن العامل الذي يشتري بطاطا والمرأة التي تشتري خيوطا يتبعان كلاهما حكمهما على الأشياء. لكن الاختلاف في مقدار حكمهما يتوقف على المراكز التي يشغلانها في العالم، وهذه المراكز هي نتاج التنظيم الاجتماعي.

هل أن كل الحاجات قائمة على التقدير أو على التنظيم العام للإنتاج؟ إن الحاجات غالبا تقوم مباشرة نتيجة للإنتاج أو من حالة الأعمال القائمة على الإنتاج. فالتجارة العالمية تقوم تقريبا على الحاجات ولا تقوم على الاستهلاك الفردي بل على الإنتاج. ولنختار مثالا آخر، ألا تكون الحاجة للمحامين نتيجة لوجود القانون المدني الذي يعبر عن تطور الملكية أو تطور الإنتاج.

لم يكن هذا حلا كافيا لبرودون أن يقلل من العوامل المذكورة بالنسبة لعلاقة العرض والطلب. إنه يحمل الفكر المجرد إلى أبعد حدوده عندما يُذيب المنتجين بشكل منتج واحد، وعندما يذيب كل المستهلكين في مستهلك واحد، وعندما يتم صراعا بين هذه الشخصيات الوهمية. ففي العالم الواقعي تحدث الأشياء ولكن بشكل آخر. فالمنافسة بين العارضين والمنافسة بين الطالبين تشكل قسما ضروريا من الصراع بين الشارين والبائعين، وتكون قيمة السوق نتيجة لهذا الصراع.

وبعد أن يكون برودون قد خفف من قيمة المنافسة وتكاليف الإنتاج يقدم لنا قاعدته الفارغة عن العرض والطلب:

يقول «العرض والطلب هما أشكال احتفالية Ceremonial forms تعمل على وضع قيمة الانتفاع وقيمة التبادل وجها لوجه، وتحاول أن تصلح بينهما، إنهما – أي العرض والطلب – قطبا الكهرباء اللذان عندما يتصلان، يجب أن ينتجا المظهر الذي ندعوه التبادل». المجلد ١ صفحة ٤٩ و٥٠.

ويقدر كل شخص أن يقول أن التبادل هو شكل احتفالي يعمل على تعريف وتقديم المستهلك الشيء المعد للاستهلاك. ويستطيع كل فرد أن يقول أيضا أن كل العلاقات الاقتصادية هي أشكال احتفالية تخدم مصلحة الاستهلاك، وليس العرض والطلب علاقات بين منتوج معطى أكثر مما هما تبادلات بين أفراد.

فماذا يتضمن، ديالكتيك برودون بعد هذا البحث؟ إن هذا ديالكتيك يبحث في المقارنة بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل، والمقارنة بين العرض والطلب، والمقارنة بين المجرد والأفكار المتناقضة (مثل الندرة والغزارة أي القلة والكثرة) والمقارنة بين المنفعة والتقدير، والمقارنات بين مستهلك ومنتج وكلاهما فرسا الإرادة الحرة.

إلام كان يهدف برودون؟

كان يظن أنه يعرف ويدخل عاملا هاما في أبحاثه وهو تكاليف الإنتاج ويعني بها نتيجة تناقض Synthesis قيمة الانتفاع وقيمة التبادل. وبنظره إن تكاليف الإنتاج تؤلف وتشكل القيمة الناتجة Synthetic أو القيمة المشكلة Constituted.

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

اكتشاف علمي
القيمة المشكلة أو القيمة الناتجة


                                                                                                                                                                                                                                                                                               
 

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

تطبيق قانون نسبية القيمة
أ – النقد


«كان الذهب والفضة أول السلع التي نالت قيمة مشكلة»

وهكذا فالذهب والفضة كانا أول التطبيقات «للقيمة المشلكة» هذا ما يقوله برودون، وبما أن برودون يشكل قيمة المنتوجات إذ يحددها بكمية العمل المقارن المتضمن بها، لذلك كان عليه أن يبرهن أن التغييرات في قيمة الذهب والفضة تفسر دوما بتغييرات في وقت العمل المأخوذ لإنتاجها لذلك لا يتكلم برودون عن الذهب والفضة كسلع بل كنقود.

إن منطقه الوحيد – إن كان عنده منطق – يقوم على الخلط بين مقدرة الذهب والفضة لاستعمالها كنقد لصالح ككل السلع التي تخضع لخصائص التقييم بوقت العمل. في الواقع نجد بساطة أكثر مما نجد خبثا في هذا القول.

إن سلعة نافعة – عندما توضع لها قيمة بالنسبة لوقت العمل الذي يحتاج لإنتاجها – تقبل دائما في التبادل، لكن برودون لا يقول هذا إلا عن الذهب والفضة إذ يتكلم عنهما بشروطه كما يرغب بها بالنسبة للتبادل. فالذهب والفضة هما قيمة وصلت حالة التشكيل: إنهما متضامنان في فكر برودون. إن الذهب والفضة رغم مقدرة كونهما سلعا ورغم أنهما تخضعان للتقييم كأية سلعة أخرى بالنسبة لوقت العمل، فإن لهما مقدرة كونهما الوسطاء العامين للتبادل، وأيضا مقدرة كونهما نقود، والآن يعتبر الذهب والفضة بتطبيق «القيمة المشكلة» بوقت العمل، إذ لا شيء أسهل من البرهان على أن كل السلع التي تشكل قيمتها بوقت العمل تخضع للتبادل، فهي تعد إذن.

إن برودون يتعرض لسؤال بسيط جدا. لماذا يمتاز الذهب والفضة بإعطائهم «القيمة المشكلة»؟

«إن الواجب الذي جعل المواد الثمينة تمتاز بالاستعمال، وتستعمل كوسيط في التجارة، هذه الرسوم التي هي محض اتفاق وأن بمقدرة أية سلعة أخرى – ولو بدرجة أقل – أن تقوم بهذا الواجب، يذكر الاقتصاديون هذا ويقدمون أكثر من مثال واحد، فما هو السبب الذي يجعل العالم يفضل هذه المعادن كنقود؟ وكيف يشرح الاختصاص لخواص النقود – هذا الاختصاص الذي ليس لها مثلها في الاقتصاد السياسي؟ أ من الممكن أن نعيد بناء الحلقات التي مر بها النقد واجتازها، وأن نقتفي أثره لنصل إلى المبدأ الحقيقي؟» المجلد ١، صفحة ٦٨، ٦٩.

وبما أن برودون قد وضع السؤال بهذا الشكل نجد أنه يفترض مسبقا وجود النقد، كان يجب أن يسأل نفسه هذا السؤال وهو لماذا – في التبادلات كما هي موضوعة – من الضروري أن تخضع قيمة التبادل للتبادل الفردي أي بخلق عميل خاص للتبادل. ليس النقد شيئا بل هو عبارة عن علاقة اجتماعية. لماذا تكون علاقة إنتاج مثل أية علاقة تجارية كتقسيم العمل مثلا؟ إذا كان برودون قد أخذ هذه العلاقة بعين الاعتبار كما رأى في النقد استثناء، ولما رأى به عاملا لا يتعلق بمجموعة حوادث أو أنها تحتاج لإعادة بنائها.

كان على برودون أن يتحقق من أن هذه العلاقة هي حلقة كاملة الاتصال مؤلفة من العلاقات الاقتصادية، وأن هذه العلاقة تقابل شكلا معينا من الإنتاج كمثل لا أكثر ولا أقل للتبادل الفردي. فماذا يفعل هو؟ إنه يبدأ بتجريد النقد من الشكل الواقعي للإنتاج كمجموعة ومن ثم يجعل منه العضو الأول بمجموعة خيالية. بمجموعة يجب إعادة بنائها.

وعندما يكون من الضروري إيجاد عميل خاص للتبادل أي للنقد، يتبقى أن نشرح سبب إعطاء ميزة خاصة للذهب والفضة بينما لا نعطيها لأية سلعة أخرى. إن هذا السؤال يبقى ثانويا لأنه يفسر بسلسلة علاقات الإنتاج وبالنوع والكيفية الخاصة الموجودة في الذهب والفضة كمواد. وإذا كان هذا الذي جعل الاقتصاديين يخرجون عن حدود علمهم الخاص وينخرطون في الفيزياء والميكانيك والتاريخ الخ. (كما يوبخهم برودون) فإنهم يعملون ما أجبروا على عمله، لأن السؤال لم يكن بعد محسوبا ضمن حدود الاقتصاد السياسي.

يقول برودون «إن الذي لم يفهمه أي اقتصادي هو المنطق الاقتصادي الذي حدد – لصالح المعادن الثمينة – القيمة التي تتمتع بها هذه المعادن» المجلد ١، صفحة ٦٩.

إن هذا السبب الذي لم يفهمه أحد – فهمه برودون وقدمه للأجيال القادمة.

«إن الشيء الذي لم يلاحظه أحد هو أنه من كل السلع – الذهب والفضة كانا أول سلع تحصل على قيمتها المشكلة. ففي الزمن البطريركي كان الذهب والفضة لا يزالان يخضعان للمقايضة وكانا يتبادلان بكميات من المعادن ولكن رغم هذا فقد أظهرا ميلا منظورا ليصبحا ذات مقدرة فعالة ونالا درجة مرموقة عن غيرهما فملكها الحكام رويدا رويدا وختموها بأختامهم، ووُلد النقد عندما قام الحاكم بهذا العمل، هذا النقد أي السلعة المفضلة التي رغم كل صدمات التجارة يحتفظ بقيمة نسبية محدودة ويجعل ذاته مقبولا في كل المدفوعات. تعود الصفة المميزة للذهب والفضة في الواقع – لنشكر خواصهم المعدنية لصعوبة إنتاجهما، وإلى تدخل سلطة الدولة، ولقد نالا الاستقرار والموافقة لاعتباريهما سلع».

إذا قلنا أن الذهب والفضة كانا من بين السلع الأولين اللذين نالا قيمتها المشكلة فهذا يعني أن الذهب والفضة كانا من أول من حقق حالة النقد. وهذا هو وحي برودون الأكبر، وهذه هي الحقيقة التي لم يكتشفها أحد قبله.

إذا كان يعني برودون أن الذهب والفضة كانا من بين السلع التي عُرفت وقت إنتاجها، فإن هذا يعني غير ما أراد أن يقدمه لقرائه وإذا أردنا أن نمضي في هذه الأخطاء البطريركية علينا أن نخبر برودون أن الحديد كان أول معدن عرف لأنه كان من الأشياء الضرورية للإنتاج. ونحن نوفر عليه قوس آدم سميث الكلاسيكي.

ولكن، بعد كل هذا، كيف يقدر برودون أن يستمر في الكلام عن تشكيل القيمة، بينما لا تتشكل القيمة من ذاتها؟ إنها تتشكل، لا بالوقت الذي يحتاج إنتاجها بذاتها، ولكن بالعلاقة للكوتا لكل منتوج آخر يمكن خلقه في نفس الوقت. وهكذا فتشكيل قيمة الذهب والفضة تفترض مسبقا تشكيلا كاملا لعدد من المنتجات الأخرى.

ليست السلعة إذن هي التي حققت في الذهب والفضة – حالة القيمة المشكلة – إنها القيمة المشكلة عند برودون التي حققت في الذهب والفضة حالة النقد.

والآن دعنا نفحص بإمعان هذه الأسباب الاقتصادية التي بالنسبة لبرودون – أكسبت الذهب والفضة حسنة إذ رُفعت لحالة النقد بسرعة أكبر من المنتجات الأخرى – لنشكر الذهب والفضة لإنهما مرَّا بطور تشكيل القيمة –.

إن هذه الأسباب الاقتصادية هي: الميل المتطور لتصبح «مفهوما مشكل» هي «تفضيل السوق» حتى في «الزمن البطريركي»، وأحوال أخرى تتعلق بالواقع الحقيقي – الذي يزيد الصعوبة، طالما أنها تزيد الحقائق بزيادة الحوادث التي يحاول برودون إدخالها ليشرح الواقع. لم يستنفذ برودون كل هذه الأسباب الاقتصادية. وهنا نورد أحد عوامل القوة التي تتمتع بها السلطة:

«ولد النقد من رغبة السلطة: يمتلك أصحاب السلطة الذهب والفضة ويضعون ختمهم عليه» المجلد ١، صفحة ٦٩.

وهكذا فإن أهواء أصحاب السلطة هي بالنسبة لبرودون السبب الأول والأعلى في الاقتصاد السياسي.

الواقع، يجب على الشخص أن يكون قليل المعرفة بالتاريخ لكي يعرف أن السلطة هي التي كانت خاضعة في كل العصور للأحوال الاقتصادية، ولكنهم لم يضعوا قوانين لها. إن التشريع – إن كان سياسيا أو مدنيا – لا يكون أكثر من أن يعبر عنه في كلمات – إرادة العلاقات الاقتصادية.

أهو الحاكم الذي امتلك الذهب والفضة ليجعل منهما وسطاء عامين للتبادل بتثبيت ختمه عليها؟ إذا لم يكن هؤلاء الوسطاء العامون للتبادل هم الذين امتلكوا الحاكم وأجبروه أن يضع ختمه عليها ليعطيها قيمة سياسية!

إن التأثير الذي كان ولا يزال يُعطى للنقود لا يعود لقيمته لكن لوزنه، هذا الاستقرار والسيطرة التي يتكلم عنها برودون تنطبق فقط على مقياس النقد، ويشير هذا المقياس إلى مقدار المادة المدنية الموجودة في قطعة النقد. يقول فولتير «إن القيمة الأصلية لقطعة فضة هي قطعة فضة، نصف باوند تزن ٨ أونس». إن الوزن والمقياس وحدهما يشكلان هذه القيمة الأصلية. فالسؤال: كم يستحق أونس من الفضة أو الذهب، ليبقى كما هو. إذا كان نوعٌ من الصوف من مستودعات «كولبير البطة» وسيط ماركة تجارية – صوف نقي – إن هذه الماركة لا تُخبرك عن قيمة هذا النوع من الصوف. ويجب فقط أم نعتبر السؤال: كم يُساوي الصوف؟ «إن فيليب الأول ملك فرنسا» يقول برودون «يصدر شارلمان الذهبية ثلثاً بثلثين، مُتخيِّلاً أنه يحتكر صناعة النقد، وهطذا يقدر كل تاجر أن يعمل إذا احتكر منتوجاً ما. وماذا كان سبب تخفيض قيمة الصرف التي يقوم لأجلها فيليب الأول ومن تبعه؟ كان عمله المنطق الصادر عن وجهة نظر الواقع التجاري، لكن كل علم اقتصادي غير منطقي يفترض أن – كما أن العرض والطلب ينظِّمان القيمة إمَّا بإنتاج قلةٍ مُصطنعةٍ أو باحتكار الأشياء المصنوعة – يزاد تقدير قيمة الأشياء، وهذا شيءٌ ينطبق على الذهب والفضة كما ينطبق على القمح والخمر والزيت والتبغ. لكن خِداع فيليب لم يشك به حالاً إلا عندما انخفضت القيمة الواقعية لنقده، وخسر هو نفسه ما طن أنه سيربحه من أتباعه. وقد حدث نفس الشيء نتيجة لكل محاولة مُشابهة» المجلد ١، صفحة ٧٠ – ٧١.

لقد برهن عدة مرات أنه إذا أراد أمير أن يخفض من قيمة الصرف فإنه سيخسر. فما يربحه لدى أول إصدار يخسره كل مرة تعود إليه القطع النقدية الزائفة بشكل ضرائب الخ. لكن فيليب وأتباعه كانوا قادرين أن يحموا أنفسهم من هذه الخسارة لأنهم عندما وضعوا القطع النقدية للتداول، فإنهم كانوا يأمرون بجمع المال كما كانوا يفعلون سابقا.

وعلاوة على ذلك لو أستطاع فيليب الأول أن يكون منطقيا مثل برودون لما كان منطقيا ممتازا «من الوجهة التجارية» لم يبرهن لا برودون ولا فيليب الأول عن أية عبقرية تجارية عندما تصوروا إمكانية تغيير قيمة الذهب كإمكانية تغيير أية سلعة أخرى: وهذا فقط لأن سعرها محدد بالعلاقة بين العرض والطلب.

لو أمر الملك فيليب أن يصبح مكيال من الحنطة في المستقبل مكيالين من الحنطة. لكان في عمله هذا مخادعا، ولخدع كل الذين يحصلون على دخل، ولخدع الناس الذين كانوا يحصلون على مائة مكيال من الحنطة. ولكان سبب تخفيض مائة مكيال ينالها البعض إلى خمسين مكيال فقط. ولنفترض أن الملك كان مديونا بمائة مكيال حنطة فكان عليه أن يدفع خمسين فقط. لكن في التجارة نرى أن المائة لا تساوي أكثر من الخمسين، ففي تغييرنا للاسم لا نغير شيء. إن كمية الحنطة، معروضة أو مطلوبة، لا تزداد أو تنقص بتغيير الاسم فقط. وهكذا فالعلاقة بين العرض والطلب يبقى نفس الشيء رغم هذا تغيير في الاسم وسعر الحنطة لا يتأثر بأي تغيير حقيقي. عندما نتكلم عن عرض وطلب الأشياء لا نتكلم عن عرض وطلب أسماء الأشياء.

لم يكن فيليب الأول صانع ذهب أو فضة كما يقول برودون، لقد كان صانع أسماء القطع النقدية. اجعل نوع الصوف الفرنسي نوعاً من الصوف الآسيوي فتستطيع أن تخدع شارياً أو شاريين، ولكن عندما تُكتشف الخدعة، فإن ما تدعوه صوفاً آسيوياً يهبط سعره إلى سعر الصوف الفرنسي. عندما وضع الملك فيليب قاعدة عامة للذهب والفضة استطاع أن يخدم غيره طالما أن الخدعة لم تكن معروفة. وكأي صاحب خدع فإنه خدع زبائنه عندما وصف لهم مستودعاته وصفاً كاذباً، لكن هذا الكذب لم يدم طويلاً. لقد أُجبر أخيراً أن يقاسي مرارة القوانين التجارية. وهل هذا هو ما أراد برودون أن يبرهنه؟ كلا، بالنسبة له. يحصل النقد على قيمته من السلطة وليس من التجارة ولكن ماذا يبرهن حقاً أن التجارة لها سلطة أكثر من السلطة. دع قرارات السلطة تجد أن ماركاً واحداً سيكون في المستقبل ماركين، وتستمر التجارة تقول إن هذين الماركين لا يساويان أكثر من ماركٍ سابقاً.

ولكن علاوةً على كل هذا نجد أن مسألة القيمة المحددة بكمية العمل لم تتقدم خطوة واحدة ولا نزال في حيرةٍ لنُقرر إن كانت قيمة الماركين (اللذين أصبحا بقيمة مارك واحد) تُحدد بتكاليف الإنتاج أو بقانون العرض والطلب.

يُتابع برودون «يجب أن نثبت في عقولنا – عوضاً أن نُنقص من قيمة الصرف أنه كان بمقدور الملك أن يُضاعف حجمه – أن تبادل قيمة الذهب والفضة كان سيسقط إلى النصف وهذا يعود دوماً لأسباب النسبة والتساوي». المجلد ١، الصفحة ٧١.

لو كانت هذه الفكرة شرعية (وهو يُشارك غيره من الاقتصاديين) – فستناقش فقط فكرة العرض والطلب وتحبذ فكرة النسبة عند برودون. فمهما تكن كمية العمل المضمنة في حجم مضاعف للذهب والفضة، فإن قيمتها ستسقط للنصف، لأن الطلب يبقى نفس الشيء بينما العرض قد تضاعف. أيمكن أن نخلط قانون النسبة بقانون العرض والطلب؟ إن قانون النسبة هذا الذي يتكلم عنه برودون يظهر أنه مطاط جدا وقادر على التغييرات وقابل للاتحاد والذوبان بقوانين غير، حتى أنه يطابق ولو مرة واحدة، قانون الطلب.

لكي نجعل «كل سلعة قابلة للتبادل، إذا تم هذا التبادل فأنه يتم بحق». لنطبق هذا الحق على قاعدة الدور الذي يلعبه الذهب والفضة، يعني عدم فهم هذا الدور. يقبل الذهب والفضة بحق لأنهما يقبلان واقعيا، ويقبلان واقعيا لأن التنظيم الحاضر للإنتاج يحتاج لوسيط عام يقوم بدور التبادل. فالحق هو التعريف الرسمي للواقع.

لقد رأينا أن مثال النقد كتطبيق للقيمة – هذه القيمة التي حققت دور التشكيل – إن برودون قد أختار هذا المثال ليتهرب من مبدئه الكلي في التبادل، يعني لكي يبرهن أن كل سلعة تعطي قيمتها على أساس تكليف إنتاجها يجب أن تصل لحالة النقد. كل هذا يمكن أن يكون جميلا لولا الاعتراف بالواقع أن الذهب والفضة – كنقود – هي الوحيدة بين السلع التي لا تتحدد بتكاليف إنتاجها ودليل على هذا هو أنه يمكن أن نستعيض عنها بالنقد الورقي أثناء التداول. وطالما أنه توجد نسبة معينة وملحوظة بين متطلبات التداول بين كمية النقود المطروحة، ولو كانت ورقا أو ذهبا أو بلاتين أو نقود ا نحاسية، فلا يمكن أن نلاحظ وجود نسبة بين القيمة الداخلية المخلوقة «تكاليف الإنتاج» وبين قيمة النقود المسماة. بلا شك، في التجارة العالمية، يحدد النقد كأية سلعة أخرى أي بوقت العمل. ولكن في الواقع إن الذهب والفضة في التجارة الدولية هي وسائل المنتوجات وليست كنقود. وهذا يعني أن النقود تفقد «صفتها العامة والمستقرة» وتفقد «موافقة السلطة» التي – بالنسبة لبرودون – تُشكِّل مميزاتها الخاصة. لقد فهم ريكاردو هذه الحقيقة جيداً حتى بعد أن أسس طريقته على القيمة المحدودة بوقت العمل، وبعد أن قال: «إن الذهب والفضة ككل السلع الأخرى، لها قيمة فقط بالنسبة لكمية العمل الضروري لإنتاجها والتي تأتي بها للسوق» فإنه يُضيف أن قيمة النقد لا تُحدد بوقت العمل المتضمن بمادته بل بقانون العرض والطلب فقط.

«ورغم أن النقد الورقي ليس له قيمة داخلية، ولكن لدى تحديد كميته، نرى أن قيمته في التبادل عظيمة كمقدار قطعة النقود (أي أن الورق يحل محل قطعة النقد المعدنية). وبنفس المبدأ لدى تحديد كميته، فإن قطعة نقد مُخفَّضٌ وزنها تُتداول بالنسبة للقيمة التي تحملها، ولو لم تكن في وزنها الشرعي وقيمتها الأصلية لتم تبادلها كما كان سابقاً. نجد في تاريخ النقد الإنكليزي أن قيمة الصرف لم تنخفض بنفس النسبة التي تخفض به قطعة النقد وسبب هذا هو أن النقد لم يزدد أبداً كمياً بالنسبة لقيمته المنخفضة» ريكاردو.

والآن نُورد ما يلاحطه ساي بالنسبة لقول ريكاردو:

يكفي هذا المثال، كما أظن لِيَقنع المؤلف أن أساس كل قيمة ليست كمية العمل الذي يحتاج له لعمل السلعة، لكن الحاجة لتلك السلعة إذا قوبلت بِقلَّتها وندرتها.

وهكذا فالنقد – الذي ليس هو بالنسبة لريكاردو قيمة يُحدِّدُها وقت العمل، والذي يتَّخذه ساي كمثالٍ ليُقنِع ريكاردو أن القِيم الأخرى لا يمكن تحديدها أيضاً بوقت العمل، هذا النقد، الذي يتَّخذه ساي كمثال لقيمة تحدد بالعرض والطلب، يصبح بالنسبة لبرودون المثال الممتاز لتطبيق القيمة المشكلة بوقت العمل.

ولكي نستنتج – إذا لم يكن النقد قيمة «مشكلة» بوقت العمل – إذن له علاقة بفكرة النسبة عند برودون. إن الذهب والفضة يخضعان للتبادل دوما لأن لهما ميزات خصوصية للخدمة كوسيط عام التبادل وليس لأنها موجودة بكمية نسبية لحاصل مجموع الثروة، ولنضع الاستنتاج بقالب أحسن: إنهما – الذهب والفضة – نسبيتان لأنهما – وهما وحدهما نسبيتان بين كل السلع – تخدمان كنقد، وكوسيط عام التبادل مهما كانت كميتهما بالنسبة لحاصل مجموع الثروة. «لا يمكن أن يكون التبادل غزيرا حتى يطوف، لأنه لدى تنقيص قيمته – وبنفس النسبة أنت تزيد كميته – ولدى زيادة قيمته، فإنك تقدر أن تنقص كميته» ريكاردو.

«ما هو هذا التعقيد في الاقتصاد السياسي» يصرح برودون.

«ملعون هو الذهب» يصرخ شيوعي بفم برودون. إنك تقدر أن تقول: ملعون هو القمح، ملعونة هي الكرمة، ملعونة هي الخراف!.. لأنها مثل الذهب والفضة، فنرى أن كل قيمة تجارية يجب أن تنال تحديداتها الصحيحة». المجلد ١، صفحة٧٣.

إن فكرة جعل الخراف والكرمة تصل لحالة النقد ليست جديدة ففي فرنسا، في عصر لويس الرابع عشر، ففي ذلك الزمن، عندما ابتدأ النقد في فرض سيطرته، أخذ الناس يتذمرون من انخفاض كل السلع الأخرى، وكان يرجى أن يكون ذلك الوقت الذي يمكن تنال فيه «كل قيمة تجارية» تحديدا صحيحا وأن تنال حالة النقد أي أن تحقق كونها نقدا. وحتى في كتاب بواغيبر Boisguillebert وهو أحد الاقتصاديين الفرنسيين القدماء، نجد هذا القول«النقد إذن – لدى وجود مُنافسين عديدين بشكل سلع، وهذه السلع وهي حاصلة على قيمتها الحقيقية – سيعود مرة أخرى لحدوده الطبيعية». كتابه «الاقتصاديون ورجال المال في القرن الثاني عشر».

Economists, Financiers de Dix – Huitième Siècle

كلُّ واحدٍ يرى أن أول أوهام البورجوازية هو آخر أوهامها.

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

تطبيق قانون نسبية القيمة
ب – العمل الفائض


«في بعض كتب الاقتصاد السياسي نقرأ هذه الفرضية: لو تضاعف سعر كل الأشياء... كان سعر كل شيء لن يكون النسبة بين الأشياء – إذ أن كل واحد يقدر أن يُضاعف العلاقة والنسبة أو القانون» المجلد ١، صفحة ٨١.

لقد سقط الاقتصاديون في هذه الفرضية البالية لأنهم لك يعرفوا كيفية تطبيق «قانون النسبة» وقانون «القيمة المُشكَّلة».

ولسوء الحظ نقرأ في نفس كتاب برودون «المجلد ١، صفحة ١١٠» «لو ارتفعت الأجور ارتفاعاً عاماً، فإن سعر كل شيء سيرتفع». وعلاوة على هذا. لو وجدنا هذا السؤال في كتب الاقتصاد السياسي لوجدنا شرحاً له: «عندما يتكلم شخصٌ عن سعر كل السلع عندما ترتفع أو تهبط، فإنه يُجرد عنها سلعةً ما. وهذه السلعة التي لا تخضع لهذ الفرضية هي النقد والعمل».
John Stuart Mill: Essays on Some UnsettledQuestions of Political Economy.

لِنأت الآن إلى التطبيق الثاني «للقيمة المُشكَّلة» ولنأت إلى نسبٍ أخرى – هذه النسب ينقصها نسب حقة – ولننظر إن كان برودون أكثر سعادةً هنا من المكان الذي يُحاول فيه أن يجعل الخراف والكرمة نقوداً.

«قبِل الاقتصاديون فرضيَّة ما وهي أن كلَّ عملٍ يجب أن يترك فائضاً. ففي نظري هذه الفرضية حقيقة مطلقة وعامة.. إنها تابع لقانون النسبة التي يمكن أن نعتبرها كخلاصة لعلم الاقتصاد كله. ولكن إذا سمح لي الاقتصاديون أن أقول أن المبدأ القائل أن كل عملٍ يجب أن يترك فائضاً، فإن هذا المبدأ لا معنى له ولا يخضع لأي برهان أو دليل» المجلد ١، صفحة ٧٣.

ولكي يُبرهن أن كلَّ عملٍ يترك فائضاً نرى برودون يُعطي شخصيَّةً للمجتمع. إنه يلتفت إلى شخص – المجتمع – أنه ليس مجتمعاً من الأشخاص وليس له مفهوم عام مع الأشخاص الذين يؤلفونه: وذكاؤه (أي ذكاء المجتمع) ليس هو ذكاء الناس الذين به لكنه مجتمعٌ خالٍ من كلِّ شعورٍ بالذوق والحساسية. إن برودون يوبِّخ الاقتصاديين لأنه لم يفهم تضامن المخلوقات. ونحن نفرح أن نجابهه بهذا القول الذي اقتبسناه عن اقتصاديٍ أمريكيٍ؛ إذ يتهم الاقتصاديين بعكس ما اتهمهم برودون: «إن الوحدة الأخلاقية – الكائن النحوي الذي تدعوه الأمة، وُصف دوماً كشيءٍ موجودٍ حقاً، لكنه ليس موجوداً إلا بمخيلة هؤلاء الذين يخلقون شيئاً من كلمة.. لقد سبب هذا متاعب كثيرة وسبب كثيراً من الاضطراب وعدم الفهم في الاقتصاد السياسي.
Cooper, «Lectures on The Elements of Political Economy».

يُتابع برودون ويقول: «إن هذا المبدأ المُتعلِّق بفائض العمل هو حقيقةٌ بالنسبة للأفراد لأنه يصدر عن المجتمع الذي يُطبِّق عليهم منفعةَ قوانينه» المجلد ١، صفحة ٧٥.

هل يعني برودون أن إنتاج الفرد الإجتماعي يفوق إنتاج الفرد وحده؟ هل يُشير برودون إلى أن إنتاج الأفراد المجتمعين يزيد على إنتاج الأفراد غير المجتمعين؟ وإذا كان هذا، فنحن نقدِر أن نُقدِّم له مئات الاقتصاديين الذين تكلموا في هذا الحقل البسيط بدون أي تصوفٍ يُحيط به برودون نفسه. وهذا ما يقوله سادلر:

«إن العمل المُتحد يُعطي نتائج أحسن بكثير من العمل الذي يقوم به الفرد. وبما أن البشر يزداد عددهم فإن إنتاج عملهم المتحد سيزيد بكثير كمية أية إضافة حسابية على أي عملٍ فردي.. ففي الفنون الميكانيكية كما في الأبحاث العلمية، يمكن للرجل أن يُنتج أكثر في اليوم وهو يعمل مع غيره.. أكثر مما لو كان يعمل منفرداً طول حياته.. والهندسة تقول: إن الكل يُساوي مجموع الأجزاء، فإذا طبَّقنا هذا القول على هذا الموضوع فإن هذه الفرضية تكون خطأً ولدى اعتبارنا للعمل – وهو العمود الفقري العظيم للوجود الإنساني يمكن أن يُقالأن الإنتاج الكلي للعمل المتحد يزيد إلى ما لا نهاية كل الجهود التي يقوم بها الفرد»..
T. Sadler «The Law of Papulation»

ولنعود الآن لبرودون، إن العمل الفائض – يقول برودون – يشرحه الشخص – المجتمع – إن حياة هذا الشخص (المجتمع) تقودها القوانين التي تحكم نشاطات الإنسان كفرد. وبرودون يرغب أن يُبرهن هذا بالوقائع.

إن اكتشاف عملية اقتصادية لا يُقدِّم للمخترع ربحاً مُساوياً للمنفعة التي يُقدِّمها للمجتمع.. ولقد شُوهد أن مشاريع السكك الحديدية هي مصدر ثروةٍ أقل للمتعهدين.. إن معدَّل تكاليف نقل السلع على الطرق هو ١٨ سنتيم للطن في الكيلومتر؛ وهذا السعر ينطبق على البضائع من مكان تحميلها لمكان تسليمها. ولقد حسب أنه بناءً على هذه النسبة إن مشروع سكةٍ حديديةٍ لا يربح ١٠ سنتيم بالنسبة للنقل على الطرقات. ولكن لنفترض أن سرعة النقل بواسطة سكة الحديد بالمقابلة مع سرعة النقل على الطرقات هي ٤ – ١. وبما أن الوقت في المجتمع هو القيمة نفسها، فإن سكك الحديد – الأسعار كونها مُتساوية – تُمثِّل تقدُّماً بـ ٤٠٠٪ على النقل عل الطرقات، ومع ذلك فإن هذه الحسنة الكبيرة – وهي حسنةٌ للمجتمع لا تتحقق بنفس النسبة للناقل، هذا الناقل الذي يُقدِّم للمجتمع قيمةً إضافيَّةً مؤلَّفةً من ٤٠٠٪ لا يقدر من جهة أن يسحب ١٠ بالمائة. ولكي نوضح الموضوع أكثر نقول: دعنا نفترض، كواقع، أن سكة الحديد تضع معدَّلاً قدره ٢٥ غرشاً بينما يبقى النقل على الطرقات ١٨ قرشاً، ففي هذه الحالة تخسر الخطوط الحديدية كل زبائنها. فمرسلو البضائع ومستلموها، وكل واحد يعود إلى النقل بالعربات القديمة إذا رأى ذلك ضرورياً. وحينئذٍ تُهجر عربات القطار. إن التقدم أو ميزة ٤٠٠٪ ستُضحي لخسارةٍ خاصةٍ مقدارها ٣٥ بالمائة. وسبب هذا نعرفه بسهولة: إن التقدم الحاصل من سرعة القطار هو تقدمٌ اجتماعي وكل فردٍ يُشارك بهذا التقدم بنسبة دقيقة بينما تقع الخسارة على المستهلك مباشرةً وشخصياً. إن ربحاً اجتماعياً قدره ٤٠٠٪ لا يُمثِّل بالنسبة للفرد – إذا كان المجتمع مليون فرد – ٤ من عشرة آلاف، بينما نجد أن خسارة ٣٣٪ للمستهلك تفترض تراجعاً اجتماعياً مؤلفاً من ٣٣ مليوناً». المجلد ١، صفحة ٧٥ و٧٦.

والآن لننظر لماذا عبَّر برودون عن سرعة أربع مرات (٤٠٠) أكثر من السرعة الأصلية. لكنه يُريد أن يخلق علاقةً بين نسبة السرعة المئوية ونسبة الربح المئوية ويقيم عندئذٍ نسبةً بين هاتين العلاقتين اللتين – رغم أن كلَّ واحدةٍ تُقاس على حِدة بالنسة المئوية – لا يُمكن قياسها مع بعضها! وهكذا يعمل على أن يظهر نسبة بين النسب المئوية بدون الإشارة إلى مخرجٍ لهما.

إن النسب المئوية تبقى دوماً نسباً مئوية، ١٠ بالمائة و٤٠٠٪ يمكن قياسهما، إنهما لبعضهما بنسبة ١٠ إلى ٤٠٠، وهكذا يستنتج برودون أن ربح ١٠٪ يُعادل ٤٠ مرة أقل من سرعة أربع مرات أكثر. ولكي يخدع غيره بالمظاهر يقول إن الوقت بالنسبة للمجتمع، هو نقود. يعود هذا الخطأ لأنه لم يفهم جيداً وجود صلة بين القيمة ووقت العمل، فهو يسرع أن يُقارن ويُشبِّه وقت العمل بوقت النقل، يعني أنه يعين السواقين وغيرهم الذين وقتهم يُمثِّل وقت نقل، إنه يمثل عمل هؤلاء بالمجتمع كلِّه. وبضربةٍ قاضيةٍ واحدةٍ، تُصبح السرعة رأسمالاً، وفي هذه الحالة يعتقد حقاً إذ يقول: «إن ربح ٤٠٠٪ ستضحي لخسارة ٣٤ %». وبعد أن يُؤسس هذه الفرضية الغريبة كرياضياتي يعتقد أنه عليه أن يشرحها لنا كاقتصادي.

«إن ربحاً اجتماعياً يُعادل ٤٠٠٪ يُمثِّل بالنسبة للفرد – في مجتمعٍ مؤلفٍ من مليون شخص – أربعةً من عشرة آلاف». اتفقنا: لكنن هنا لا نبحث في ٤٠٠٪ لا أكثر ولا أقل. ومهما يكن رأس المال فإن الأشخاص الذين ستُقسم بينهم النسبة سينالون دوماً ٤٠٠٪ وماذا يعمل برودون؟ إنه يتكلم عن النسبة المئوية كأنها رأسمال، ونراه خائفاً من اضطرابه لأنه لم يشرح قوله، ويُتابع:

«وإن خسارة ٣٣٪ بالنسبة للمستهلك تفترض تأخراً اجتماعياً من ٣٣ مليوناً». إن خسارة ٣٣٪ بالنسبة للمستهلك تبقى خسارة ٣٣٪ لمليون مستهلك، وكيف يقدر برودون أن يقول إن التأخر الاجتماعي في حالة خسارة ٣٣٪ تُعادل ٣٣ مليوناً عندما لا يعلم هو الرأسمال الاجتماعي والرأسمال العائد لكل فرد من الأفراد الذين تتعلق بهم المسألة؟ وهكذا لم يكن كافياً لبرودون أب يخلط بين رأسمال ونسبةٍ مئويةٍ، إنه يفوق نفسه عندما يعرف أن رأس المال قد غرق في مشروع مع عدد الفرقاء المهتمين.

«ولكي يوضح المسألة أكثر دعنا نفترض أن الواقع» رأسمالاً مُعطى. إن ربحاً اجتماعياً من ٤٠٠٪ يُقسم على مليون مشترك أو مُساهم – وكل واحد من المُساهمين يهتم بربحِ وفرنكٍ واحدٍ – يُعطي نتيجة ٤ فرنكات لكل شخص وليس ٠,٠٠٠٤ كما يقول برودون وهطذا فخسارة ٣٤٪ لكل من المشتركين تُمثِّل تأخراً اجتماعياً من ٣٣٠٠٠٠ ألفاً وليس ٣٣ مليوناً (٣٣٠:١٠٠ = ٣٠٠٠٠٠:١٠٠٠٠٠٠).

إن برودون، بما أنه كان مشغولاً بنظريته في الشخص (المجتمع) ينسى أن يُقسِّم على ١٠٠ لكي يحصل على خسارة ٣٣٠٠٠٠ فرنكاً، لكن ربح فرنكات لكل فرد يؤدي لربح ٤ ملايين فرنكاً ربحاً للمجتمع، ويبقى للمجتمع ربحٌ صافٍ من ٣٦٧٠٠٠٠ فرنكاً. وهذا الحساب الدقيق يُبرهن بدقة التناقض فيما أراد برودون قوله: وهو أن أرباح وخسائر المجتمع ليست في نسبةٍ معكوسةٍ لأرباح وخسار الأفراد.

وبما أننا قد قدمنا هذه الأخطاء البسيطة العائدة لحساباتٍ دقيقةٍ، لنلق الآن نظرةً على النتائج التي نصلها إذا نحن قبِلنا هذه العلاقة بين السرعة ورأس المال في حالة الخطوط الحديدية – كما يُقدِّمها برودون – دعنا نفترض أن نقل أربعَ مراتٍ أسرع يُلكِّف أربع مراتٍ أكثر! إن هذه النقل لا يُعطي ربحاً أقل مما يُعطيه النقل بالعربة التي هي أبطأ أربع مرات أقل وتُكلِّف ربع الكمية. فإذا كانت العربة تتقاضى ١٨ غرشاً فإن خط الحديد يتقاضى ٧٢ غرشاً. وهذا يكون بالنسبة للحسابات نتيجةً للفرضيَّة التي عرضها برودون – ودائماً تنقص أخطاؤه – وهنا فجأةً نراه يقول لنا أنه عوضاً عن ٧٢ غرشاً، فإن الخطوط الحديدية تتقاضى ٢٥ غرشاً لأنها تخسر كلَّ زبائنها. وبالنتيجة علينا أن نعود إلى العربة القديمة. فإذا كان علينا أن ننصج برودون يجب أن لا ننسى في برنامجه للمجتمع المُتزايد أن تقسِّم على ١٠٠، لكن مع الأسف نرى أنَّه لا يأخذ بنصيحتنا لأن برودون مبتهجٌ بحساباته التقدميَّة التي تُقابل وتُشبه المجتمع التقدَّمي، حتى أنَّه يصرخ مؤكِّداً: «لقد أظهرتُ في الفصل الثاني عندما حللت مفهوم تناقض القيمة، أن الحسنة التي يُقدِّمها كل امتشاف جديد هي قليلة بالنسبة لمخترع مهما عمل هذا المخترع للمجتمع. ولذلك قمت بالبرهان الثابت حتى توصَّلت لهذا النقطة واعتمدت على نشاطي الحسابي».

ولنرجع إلى خُرافة الشخص (المجتمع)، هذه الخُرافة التي ينحصر هدفها بالبرهان على هذه الحقيقة البسيطة – وهي أنَّ اختراعاً جديداً يُساعد أن يُقدِّم كميةً من العمل ليُنتج عدداً أكبر من السلع، إن هذه الاختراع يُخفِّض قيمة الإنتاج، فالمجتمع إذاً ينال ربحاً، ليس في حصوله على قيم تبادل أكثر، بل في الحصول على سلعٍ أكثر بنفس القيمة.

وبما يتعلَّق بالمخترع، فإن المُنافسة تجعل ربحه يسقط إلى المستوى العادي للأرباح. هل برهن برودون هذه الفرضيَّة كما أراد هو؟ كلا. إن هذا لم يمنعه أن يوبِّخ الاقتصاديين عندما فشل برهانه. وإذا برهنا له على العكس أنَّهم برهنوها فإننا نُقدِّم له – ريكاردو ولوردال – ريكاردو زعيم المدرسة التي تُحدِّد القيمة بوقت العمل، ولوردال أحد المُدافعين الكِبار عن تحديد القيمة بالعرض والطلب. وكلاهما عرضا الفرضيَّة نفسها.

«عندما نُسهِّل الإنتاج فإننا ننقص قيمة بعض السلع قبل الإنتاج، رغم أنه بنفس العوامل لا نزيد فقط الثروات الوطنية بل نزيد قوة الإنتاج في المستقبل –... إنَّك بمساعدة الآلة وبمعرفتك للفلسفة الطبيعية، فإنَّك تُجبر العُملاء الطبيعيين أن يعملوا العمل الذي قام به الإنسان قبلاً، وقيمة التبادل لمثل هذا العمل تسقط وتنقص. فإذا كا عشرة رجال يديرون طاحونة قمح، وبعد الاكتشاف وُجد أنَّه بمساعدة الهواء أو بمساعدة الماء نقدر أن نوفِّر هؤلاء الرجال العشرة، فالدقيق الذي هو نتيجة قسم من العمل الذي قدمته الطاحونة سيهبط سعره بالنسبة لكمية العمل المُوفَّر، ويكون المجتمع أغنى بالسلع التي هي نِتاج عمل عشرة رجال» (ريكاردو) المجلد ٢، صفحة ٥٩.

وجاء دور لوردال ليقول:

«وفي كل وقت يُوظَّف به رأس المال ليُنتج ربحاً فإنه يرتفع إما – لأنه يؤلِّف قسماً من العمل الذي كانت يد الإنسان تقوم به – أو لأنه يؤلِّف قمساً من العمل الذي هو أبعد من أن يقوم به جُهد الإنسان. فالربح الصغير الذي يناله عادةً أصحاب الآلات عندما تقيسها بأجور العمل التي تُساعد الآة على خلقه، يمكن أن يخلق شيئاً بالنسبة لصحة هذه النظرة. إن بعض الآلات التي على النار تستهلك ماءً من الآلة التي تعمل على الفحم الحجري أكثر من الماء الذي يمكن حمله على أكتاف الرجال، فإذا جهزنا هذه الآلة بمرجل ماءٍ كبيرٍ فإنها تُنجز عملها بمصروفٍ أقل بكثير من كمية الأجور التي تُقدَّم لهؤلاء الذين كانوا يعملون لو كانوا يقومون بتجهيز ونقل الماء. وهذه الحقيقة تنطبق على كل أنواع الآلات. يجب أن تُنفِّذ كلُّ الآلات العمل الذي كان يُقام قبلاً، يجب أن تُنفِّذ هذا العمل بنسبةٍ أرخص مما لو كانت يد الإنسان تُقدِّمه... فإذا كان هذا هو الامتياز الذي يُقدَّم لدى اختراع آلة – هذه الآلة التي بواسطة عمل شخصٍ واحدٍ، تُنجز كميةً من العمل كان يحتاج لأربع رجالٍ يقومون به، وبما أن ملكية هذا الامتياز يمنع المنافسة أن تعمل العمل – إلا ما كان يَنتج من عمل العمال وعن أجورهم طالما أن هذه الآلة تُخفِّض الأجور. ولكن عندما يوجد هذا الامتياز فإن آلاتٍ أخرى من نفس النوع تقوم وتُنافس، وحينئذٍ نرى أن كلَّ الآلات تعمل على نفس المبدأ لكثرة الآلات... لربح الناتج عن الرأسمال المستثمر.. رغم أنه يأتي عمل مساعد، ولكن هذا الربح لا يأتي فقط عن العمل المساعد الذي تُقدِّمه الآلة بل عن المنافسة بين أصحاب رأس المال، يكون هذا الربح كثيراً بالنسبة لكمية رأس المال الذي يُمثل في إنجاز العمل وإنجاز الطلب». (لودرال، صفحة ١١٩، ١٢٣، ١٢٤، ١٢٥، ١٣٤).

وأخيراً طالما أن الربح هنا أكثر من الربح في الصناعات الأخرى، فإن رأس المال يوظَّف في الصناعة الجديدة حتى تهبط نسبة الربح للمستوى العام.

لقد رأينا أن مَثله للخطوط الحديدية لم يُساعده على إلقاء نورٍ على خُرافته – الشخص (المجتمع) – ومع ذلك فبرودونيختصر خطابه:«وبما أنني أوضحت هذه النقط، لا شيء أسهل من أن أشرح كيف أن العمل يترك فائضاً لكل منتج». (المجلد ١، صفحة ٧٧).

إن كلَّ ما سنراه يعود للآثار الكلاسيكية. إنها قصةٌ شعرية وُضعت لنفس القارئ بعد أن ألمَّ به تعب الحلول الحسابية التي مرت معنا. إن برودون يُطلق على الشخص (المجتمع) اسم بروميثوس ويُمجِّد برودون أعمال بروميثوس عندما يقول:

«قبل كل شيء، استيقظ بروميثوس من صدر الطبيعة وأتى إلى الحياة بقوَّةٍ جبَّارةٍ مُفرحةٍ إلخ... يبتدئ بروميثوس بعمل وفي اليوم الأول أي ثاني يوم بعد ولادته الثانية – يكون إنتاج بروميثوس الثروة أي ليكون في حالةٍ حسنةٍ، وثروته هذه تُعادل عشرة. وفي اليوم الثاني يَقسِم بروميثوس عمله فيصبح إنتاجه مساوياً لمئة. وفي اليوم الثالث وفي كل يوم يتبع يخترع بروميثوس الآلات ويكتشف منافع كثيرة في الأجسام ويكتشف قوى جديدة في الطبيعة –. وفي كل خطوةٍ يخطوها نشاطه الصناعي تنتج زيادةٌ في عدد منتوجاته، هذه الزيادة تُسبب له سعادةً كُبرى. وبعد كلِّ هذا تُصبح كلمة ”أن يستهلك“ تعني ”أن يُنتج“ ومن الواضح أن استهلاك كلِّ يومٍ – مستعملاً إنتاج اليوم السابق – يترك فائضاً في الإنتاج لليوم الثاني» (المجلد ١، صفحة ٧٧ – ٧٨).

إن بروميثوس الذي يتكلَّم عنه برودون لَهو شخصيةٌ غريبةٌ، يُعبِّر عن ضعفه في المنطق كضعفه في الإقتصاد السياسي. وطالما أن بروميثوس يُعلِّمنا تقسيم العمل واستعمال الآلة، والانتفاع من القوى الطبيعية والقوى العلمية، وزيادة القوى الإنتاجية في الإنسان لإعطاء فائض تقابلبانتاج العمل الفردي، إن بروميثوس هذا الجديد يمتاز بحظه السيِّء لأنه أتى مُتأخِّراً جداً. ولكن حين يبتدئ بروميثوس ويتكلَّم عن الإنتاج والإستهلاك يُصبح مُضحكاً. ليستهلك – كما يظن – يعني ليُنتج! إنه يستهلك في اليوم الثاني ما أنتجه في اليوم السابق، وهكذا يبقى عنده زيادة يوم إلى الأمام، وزيادة هذا اليوم هو ”فائض عمله“. لكن إن كان يستهلك ثاني يوم ما أنتجه في اليوم السابق فيجب وهو في اليوم الأول – إذ لا يوجد يومٌ قبله ليكون له فائض – أن يكون قد قام بعمل يومين حتى يعمل يوماً واحداً حتى يبقى عنده زائد. وكيف ربح بروميثوس هذا الفائض في اليوم الأول – ذلك اليوم حيث لم يوجد تقسيم عمل ولم توجد آلة حتى أنه لم توجد معرفة عن القوى الطبيعية غير قوة النار؟ فالسؤال إذن يعود ”لأول يوم بعد الخلق“ إذ إنه لم يتقدَّم خُطوةً واحدةً إلى الأمام. إن هذه الطريقة التي يستعملها برودون لشرح الأشياء مأخوذةٌ عن اليوناني وعن العبري لأنها تمتاز بصفتها الصوفية. هذه الطريقة تُعطي الحق لبرودون فيقول: «لقد برهنت نظرياً وعملياً المبدأ القائل أن كلَّ عملٍ يجب أن يكون له فائض».

”الواقع“ الذي يُظهره هو حساباته التقدُّمية، ”والنظري“ هو أسطورة بروميثوس. يُتابع برودون قائلاً: «لكن هذا المبدأ – بما أنه حقيقي وقائم على افتراضٍ حسابي – لا يزال بعيداً أن يُحققه كل شخص. وبتقدُّم الصناعة الجماعية، فسينتج كل يوم عمل لفردٍ إنتاجاً أكبر، وعندئذٍ يُصبح العامل الذي يتقاضى الأجرة نفسها أغنى وأغنى: هناك حالات تزدهر بينما حالات غيرها تتقهقر». (المجلد١، صفحة ٧٩ – ٨٠).

لقد كان عدد سكان المملكة المتحدة سنة ١٧٧٠ خمسة عشر مليون نسمة، أما السكان المُنتجون فكانوا ثلاثة ملايين. والقوى العلمية للإنتاج كانت تساوي سكان بلدٍ مؤلَّفٍ من اثني عشر مليون فرد. وهكذا كان يوجد ١٥ مليوناً من القوى الإنتاجية. وهكذا كانت القوى الإنتاجية في السكان بنسبة واحد إلى واحد، أما القوى العلمية فكانت بالنسبة للقوى اليدوية أربعة إلى واحد.

ففي سنة ١٨٤٠ زاد عدد السكان إلى ٣٠ مليون شخص، وكان السكان المنتجون ستة ملايين. لكن القوى العلمية ارتفعت إلى ٦٥٠ مليوناً، وكان هذا لكل السكان بنسبة ٢١ إلى واحد أو بالنسبة للقوى اليدوية ١٠٨ إلى واحد.

وكان يوم العمل في المجتمع الإنكليزي يتطلَّب في مدة ٧٠ سنةً فائضاً ٢٧٠٠٪ قوة إنتاجية، وهذا يعني أن سنة ١٨٤٠ أنتجت ٢٧ مرة أكثر من ١٧٧٠. وبالنسبة لبرودون يجب أن يسأل نفسه هذا السؤال: لماذا لم يُصبح العامل الإنكليزي سنة ١٨٤٠ أغنى ٢٧ مرةً من العامل سنة ١٧٧٠؟ ولدى سؤاله هكذا فإن الشخص يفترض طبيعياً أن الإنكليزي كان يقدر أن يُنتج هذه الثروة بدون الأحوال االتاريخية التي تم الإنتاج بها، مثلاً! إن التجمُّع الخاص لرأس المال، والتقسيم الحاضر للعمل، والمصانع الأوتوماتيكية، أو المنافسة الفوضوية، وطريقة الأجور – وباختصار كلُّ شيءٍ كان مبنيَّاً على صراع الطبقات. والآن، كانت هذه الأجور بالضبط الحالات الضرورية لنمو القوى الإنتاجية، كان يجب أن تكون طبقاتٌ تستفيد وتربح وطبقاتٌ تتقهقر وتخسر.

وماذا يعني برودن بروميثوس؟ إنه مجتمع، والعلاقات الإجتماعية قائمةٌ على صراع الطبقات. هذه العلاقات ليست علاقاتٍ بين فردٍ وفردٍ بل بين عاملٍ ورأسمال، بين فلاحٍ وملَّاكٍ.. إلخ. فإذا محوت هذه العلاقات فإنك تُنهي المجتمع، ولا يكون بروميثوس إلا شبحاً بدون ذراع أو أرجل، أي بدون مصانع أوتوماتيكية وبدون تقسيم عمل – وباختصار – بدون أي شيءٍ تكون قد أعطيته له تجعله يحصل على فائض العمل.

فإذا كان برودونقد اكتفى أن يشرح نظرية قاعدة فائض العمل بشعوره للتعادل بدون أن يأخذ بعين الاعتبار أحوال الإنتاج الوقعية، يجب أن يكفي في الواقع أن يجعل كل العمال يشتركون في بالثروة، وبدو أن يُغيِّر أي شرطٍ من شروط الإنتاج. وإن توزيعاً كهذا لا يؤكد أبداً درجةً عاليةً من السرور والراحة للأفراد المشتركين.

لكن برودون ليس متشائماً كما يمكن أن يظن أحدنا. وبما أن كل شيءٍ نسبة، فعليه أن برميثوس الذي جهَّزه تجهيزاً جيداً، أن يرى في مجتمعنا الحاضر، بداية تحقيق رأيه الذي حبَّذه.

«لكن في كل مكان نجد أن نقدم الثروة أي نسبية القيم، هي القاعدة المطلقة، وعندما وقف الاقتصاديون ضد تذمُّر الفريق الإجتماعي أي ضد النمو المُطَّرد للثروة العامة، وضع تحسين أحوال الطبقات الفقيرة، نجدهم يُنادجون بحقيقة كانت كافيةً أن تقضي على نظرياتهم (المجلد ١، صفحة ٨٠).

ما هي في الواقع الثروة الجماعية والغنى الجماعي؟ إنها ثروة البورجوازي – وليس كلُّ برجوازي. حسناً ان الاقتصاديين لم يفعلوا شيئاً إلا أن يُظهروا كيف أن – علاقات الإناتج الموجودة – ثروة البورجوازي نمت ويجب أن تنمو. وفيما يتعلق بالطبقات العاملة، لا نزال نجد سؤالاً لم يُناقش بعد: كانت أحوالهم قد تحسَّنت لدى زيادة الثروة العامة. فلو قدَّم الاقتصاديون مثال العمال الإنكليز المستخدمين في صناعة القطن، فإنهم يون بؤس هؤلاء في ظل ازدهار التجارة. إن هذه اللحظات من الازدهار هي نسبياً لازمةٌ للأزمات ولازمةٌ للركود ”بنسبةٍ حقيقيةٍ“ ٣ إلى ١٠. لكن ربما، عندما نتكلم عن التحسينات، كان الاقتصاديون يُفكِّرون بملايين العمال الذين كانوا يموتون ويتحطَّمون في جزر الهند الشرقية حتى يُنتجوا شيئاً ما لمليون ونصف عامل مستخدمين في انكلترا في نفس الصناعة، ثلاث سنوات ازدهار من عشر سنوات.

وبالنسبة للاشتراك المؤقت في زيادة الثروة العامة. فإن هذه مسألةٌ مختلفةٌ. إن واقع الاشتراك المؤقت يشرحه الاقتصاديون، في نظرياتهم. إنه تأكيدُ هذه النظرية وليس الحُكم عليها، كما يدعوها برودون. إذا كان يجب أن يُحكم على شيء فيجب أن يكون الحُكم على غِرار منهاج برودون الذي نقص وحقَّر العامل إلى أقل نسبةٍ للأجور، رغم زيادة الثروة العامة: إنه لم يقدر أن يُخفِّض ويُحقِّر العامل لأقل نسبةٍ للأجور إلا بإدخال النسبة الحقيقية للقيم و”القيمة المُشكَّلة“ بوقت العمل. إن الأجور، كنتيجةٍ للمنافسة، تتراوح مرةً إلى الأعلى ومرَّةً إلى الأسفل، وتؤثر علر سعر الطعام الضروري لانعاش العامل، هذا العامل يقدر أن يُشارك لحدٍ ما في تنمية الثروة العامة، ويقدر أيضاً أن يتهدَّم ويفنى من العَوَز والفقر. هذه هي نظرية الاقتصاديين الذين لم يكونوا خياليين بالنسبة للموضوع.

وبعد انحرافاته الطويلة عن موضوع الخطوط الحديدية، وعن بروميثوس وعن المجتمع الجديد الذي يجب إعادة بنائه على ”القيمة المشكلة“ نرى برودون يجمع نفسه لأن العاطفة تعصف به فيصرخ:

«إنني أرجو الاقتصاديين أن يسألوا أنفسهم للحظةٍ واحدةٍ، في هدوء قلوبهم – وأن يبتعدوا عن أحكامهم غير العادلة، هذه الأحكام التي تجعلهم يضطربون، ويجب أن يتجرَّدوا عن أهوائهم وأن لا يتأثروا بالوظيفة التي يأملون أن ينالوها، وبالفوائد التي يَجرون وراءها، وبالاستحسان الذي يتعلقون به، وبمراكز الشرف التي تُبهج كبرياءهم – دعهم يقولوا إن كان هذا المبدأ – أن كلَّ عملٍ يجب أن يترك فائضاً – قد خطر لهم أو ظهر لهم بمثل هذه النتائج التي أظهرتها وقمت بها». المجلد ١، صفحة ٨٠.

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون


                                                                                                                                                                                                                                                                                               

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

ميتافيزيك الاقتصاد السياسي
الطريقة


                                                                                                                                                                                                                                                                                               

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

ميتافيزيك الاقتصاد السياسي
تقسيم العمل واستعمال الآلة


١٤٦
الأفكار في فهم علاقة اللوائح» فإنه يتخذ أقواله من آدم سميث ولكي نشرح هذا جيدا علينا أن نقرأ هذه المقاطع من كتاب الدكتور أور (كتابه «فلسفة الصناعيين»).

«عندما كتب آدم سميث آراءه الإقتصادية الخالدة – وكانت الآلة الأوتوماتيكية تكاد أن تكون مجهولة – أعتـُبر تقسيم العمل المبدأ الأول لتحسين الصناعة وبرهن في مثاله عن صناعة الدبُّوس – كيف أن كل صاحب مهنة وهو قادر على أن يتمرن ليتخصص في نقطة واحدة يصبح عاملا أرخص وأسرع. ورأى في في كل فرع من فروع الصناعة أن بعض الأقسام – بناءاً على مثال صناعة الدبوس – سهلة مثل قطع دبابيس من الأسلاك بأطوال متناسبة وبعضها صعب مثل تشكيل وتثبيت الرؤوس (أي رؤوس الدبابيس)! واستنتجَ أن لكل قسم من أقسام صناعة الدبوس يجب تعيين عامل ذي قيمة مناسبة، وهذه القيمة المناسبة تشكل جوهر تقسيم العمل.. ولكن الشيء الذي كان على أيام الدكتور سميث موضوعاً مهماً، لا يمكن أن يُعدَّ اليوم هاماً؛ لكي لا نقود الشعب إلى الخطأ، ولكي لا يكون مبدءاً للصناعة. وفي الواقع أن التقسيم، أو بالأحرى تكييف العمل لذكاء الناس المختلف لا يفكر به المعمل. وعلى العكس عندما تحتاج عملية ما مهارة خاصة وثبات يد، فإن هذه العملية لا تطبق على العامل الماهر؛ لأن عملاً آخر لايناسبه يُعطى له، ويقوم بعمل ميكانيكي آخر يقوم به طفل صغير.

«إن مبدأ نهج المصنع هو – استبدال مهارة اليد بالعلم الميكانيكي – تفريق عملية لأقسامها الضرورية، بالنسبة لتقسيم وإعطاء درجات العمل للعمال والمهنيين. ففي أيام الصناعة اليدوية كان الإنتاج يكلف كثيراً، ولكن بالطريقة الأوتوماتيكية (أي الآلة) نجد أن المهارة في العمل تتفوق ويستعاض عنها بأناس ينظرون إلى الآلات فقط ولا يعملون شيئاً بأيديهم.»

«ونرى أنه كلما كان العامل ماهراً، ورغم أنه قادر على أن يبدع في عمله، فإنه لن ينفع شيئاً طالما أن الآلة هي التي تقوم بالعمل عنه، ولذلك فهو يسبب خسارةً لكل المصنع إن عمل بمهارته. فالشيء المهم بالنسبة للصناعة الحديثة هو– إتحاد رأس المال والعلم – تخفيف مهارة العمال.»

«وبالنسبة لإيجاد درجات العمل نجد أن الرجل عليه أن يخدم في مهنته سنين عديدة قبل أن تصبح يده أو عينه ماهرة لكي تقوم بالعمل الآلي، ولكن لدى تقسيم العمل إلى أعمال صغيرة جداً، أو لدى قيام الآلات بهذه الأعمال الصغيرة، نرى أنه لا يمكن تسليم هذه الآلة لشخص معتدل في مهارته ويمكن مدير العمل استبداله متى شاء.أن هذا لا يتفق مع مبدأ تقسيم العمل في الماضي؛ إذ كان يوضع رجل لتهيئة رأس الدبوس وآخر لتنعيمه، هذا العمل البسيط المزعج طول الحياة... ولكن لدى تساوي العمال كلهم بوجود آلات تعمل بذاتها، فإن فن الشخص ومهارته يجب أن تخضع لتمرين خاص يناسب عمل الآلة.. وبما أن العمل هو الوقوف على آلة منظمة بذاتها فإنه يقدر أن يستلم عمله بمدة قصيرة، وعندئذ ينتقل من العمل على آلة للعمل على آلة أخرى، فإنه يبدل عمله ويوسع آراءه لأنه يفكر بهذه الأقسام المختلفة تنتج عن عمله وعمل رفاقه العمال. إذاً لنتخلص من النظرة الضيقة التي وصفت بها تقسيم العمل أنها تضيق أقف العامل،إن هذه النظرة الضيقة لا توجد بعد في حالة التوزيع العادل للصناعة...»

«إن هدف تحسين كل صناعة حتى تتفوق على العمل البشري، أو لكي تنقص من قيمته ولكي يستعيض تحسين الصناعة بعمل الرجال عن عمل النساء والأولاد أو بالأستغناء عن عمل المهنيين... وهذا الميل الذي يهدف لخلق أولاد بعيون يقظة، وبأصابع ماهرة عوضاً عن عمال مياومة ولهم إختبارات كبيرة يظهر لنا كيف أن الصناعيين المتنورين لم يطبقوا نظرية تقسيم العمل بالنسبة لدرجات المهارة».

يقول لومتني «إننا نُعجب ونُدهش عندما نرى بين الأقدمين شخصاً يميزه عن غيره بأنه فيلسوف، وشاعر، وخطيب، ومؤرخ، وكاهن، وإداري وقائد جيش من الدرجة الأولى. إن أرواحنا تتألم لمثل هذا الحكم. وكل واحد منا يحصر نفسه في دائرة صغيرة، ويطلق النار على نفسه، ولا أدري إن كان هذا العمل يوسع العلم أو ينقصه».

والصفة التي نطلقها على تقسيم العمل في المصنع الأوتوماتيكي هي أن العمل هناك فقد صفته في الإختصاص. ولكن عندما يقف كل نمو خاص فالحاجة للتعليم والميل لوجود نمو جديد للفردية يقود الثورة. إن المصنع الأوتوماتيكي يقضي على الإختصاصيين والمهنيين المجانين.

إن برودون – وهو لم يفهم هذه الناحية الثورية في المصنع الأوتوماتيكي – يأخذ خطوة للوراء ويقترح على العامل أنه لا يقوم فقط بالقسم الثاني عشر من صناعة الدبوس، لكنه يجب أن يعمل كل الأقسام الثانية عشرة. والعامل عندئذ يصل إلى فهم وإدراك صناعة الدبوس. وهذه هي نتيجة فكرة برودون – ولا أحد يعارض أنه لدى القيام بحركة للأمام وحركة للوراء، يعني القيام بحركة نتيجة فكرة.

ولنقل خلاصة، نقول أن برودون لم يكن إلا بورجوازياً صغيراً مثاليا. ولكي يحقق مثاليته ما كان يفكر إلا أن يرجعنا إلى العامل اليومي، وإلى المهنيين الإختصاصيين في القرون الوسطى. هذا ما يقوله في مكان ما في كتابه أنه يكفي أن يخلق عملاً عظيما مرة في الحياة، وأنه يشعر أنه كان رجلا ولو مرة واحدة! ليس هذا العمل العظيم هو الشيء الذي كانت تطلبه النقابات التجاريه في القرون الوسطى.

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

ميتافيزيك الاقتصاد السياسي
المنافسة والاحتكار


الناحية الصالحة للمنافسة: «المنافسة ضرورية للعمل، كتقسيم العمل، وضروريه لتقدم المساواة».

الناحية الشريرة للمنافسة: «المبدأ هو نفي ذاته. ونتيجته الكبرى هي أنها تسبب خراب كل من يجري ورائه».

الإنعكاس العام: «إن المساوىء التي تظهر عند بدء المنافسة كالناحيه الصالحة... وكلا الحالتين (الصالحة والشريرة) تصدر عن نفس المبدأ».

الموضوع الذي يجب حله: «لكي نطبق مبدأ التناسب يجب أن نقتبسه عن قانون أعلى من الحرية ذاتها».

«لا يمكن أن نوجد سؤالا ليهدم المنافسة، وهذا شيء مستحيل، إذ لا يمكن تهديم النافسة كما لا يمكن تهديم الحرية، علينا فقط أن نوجد تساوياً».

يبتديء برودون ويدافع عن الضرورة الأبدية للمنافسة ضد هؤلاء الذين يريدون أن يستعيضوا عنها بالتناحر(وهؤلاء هم أتباع فورييه).

لا توجد «منافسة لا هدف لها». وربما أن موضوع كل شعور وميل يشبه الشعور نفسه، مثلاً – امرأة بالنسبة للحب، القوة بالنسبة للطموح، الذهب بالنسبة للرجل الذي ينكر نفسه ويتعلق بشهواته ولذاته، والكيل الزهر بالنسبة للشاعر – إن موضوع التناحر الصناعي يعني بالضرورة الربح، والتناحر ليس إلا المنافسة ذاتها». المجلد ١، صفحة ١٨٧.

إن المنافسة هي التناحر بالنسبة للربح. وهل التناحر الصناعي بالضروره تناحر بالنسبة للربح، أي المنافسة؟ يبرهن برودون هذا القول لدى تأكيده. ونحن رأينا بالنسبة له أن التثبيت في القول هو البرهان، كما أن الإفتراض هو النكران.

إن كانت المرأة موضوع أو هدف المحب، فإن الإنتاج وليس الربح هو هدف التناحر الصناعي.

ليست المنافسة تناحرا صناعيا، إنها تناحر تجاري. ويوجد في وقتنا تناحر صناعي فقط في نظر التجارة. وتوجد أوقات في التاريخ الإقتصادي للأمم نجد كلاً يحاول أن يربح دون أن ينتج. إن هذه المحاولة لأجل الربح إذ تحدث في أوقات معينة، تحمل في ثناياها شخصية المنافسة، هذه المنافسة التي تحاول أن تتهرب من حاجة التناحر الإقتصادي.

لو أخبرت مهنياً في القرن الرابع عشر أن الإمتيازات، وأن التنظيم الإقطاعي الصناعي سيقضى عليهما، وسيستعاض عنهما بالتناحر الصناعي، الذي يدعى المنافسه، لأجابك أن إمتيازات الإتحادات التجارية العديدة والنقابات والجمعيات الأخوية، كانت عبارة عن منافسة منظمة. يبرهن برودون أنه يحسن هذا القول عندما يثبت أن التناحر ليس إلا المنافسة ذاتها.

«صدر مرسوم في كانون الثاني سنة ١٨٤٧ يؤكد أنه سيضمن العمل والأجور للجميع، وحالاً بعد هذا سيتبع ركود هائل للصناعة» (المجلد ١، صفحة ١٨٩).

وعوض الإفتراض والنفي، حصل عندنا مرسوم وهو أن برودون سيبرهن عن ضرورة المنافسة، وخلودها كلائحة، إلخ.

إننا لن نخفف شيئاً من المصيبة إذا اعتقدنا أن المراسيم هي كل ما نحتاجه لكي نقضي علة المنافسة. وإذا كنا نتخيل كثيراً، ونقترح أن نقضي على المنافسة بينما نضيف على الأجور، فنكون كأننا نقترح لا شيء لدى استعمال مرسوم ملكي. لكن الأمم لا تقوم على المراسيم الملكية. وقبل تهيئة هذه المراسيم، يجب أن تكون قد حوت وتضمنت من عاليها لسافلها شروط وجودها الصناعي والسياسي، وبالنتيجة يجب أن تبدل كيانها الملكي.

يجيب برودون – بتأكيده الثابت – إن هذه ليست إلا فرضية «تحويل طبيعتنا دون مقدمات تاريخية»، وأنه محق «عندما يبعدنا ويجردنا عن النقاش»؛ لأننا لا نعرف شيئا عن المراسيم.

لا يعرف برودون أن التاريخ كله ليس إلا تحويلاً مستمراً للطبيعة البشرية.

«دعنا نتعلق بالواقع. قامت الثورة الفرنسية لأجل الحرية الصناعية، كما أنها قامت لأجل الحرية السياسية، رغم أن فرنسا سنة ١٧٨٩، لم تدرك – لنقل هذه الكلمة بصراحة – كل نتائج البدأ الذي طلبت تطبيقه. ولن أنازع أبدا من يقوم ضدي ويقول أن مبدأ ٢٥ مليوناًً من الناس كان مبدأ خاطئاً... لماذا إذن المنافسة مبدأ للإقتصاد الإجتماعي مرسوما للمصير، وحاجة للروح البشرية، لماذا عوضاً أن نقضي على الإعتمادات الكبرى والنقابات والأخويات، لماذا لا يفكر كل واحد أن يصلح الجميع؟ (المجلد ١، صفحة ١٩١-١٩٢).

وهكذا، بما أن فرنسا القرن الثامن عشر قضت على الأتحادات الكبرى، والنقابات والأخويات عوضاً عن إصلاحها وتكييفها، فإن فرنسا القرن التاسع عشر يجب أن تكيف المنافسة وتصلحها عوضاً عن القضاء عليها. وبما أن المنافسة تأسست في فرنسا، في القرن الثامن عشر كنتيجة للحاجات التاريخية،فيجب أن لا تهدم هذه المنافسة في القرن التاسع عشر من جراء وجود حاجات تاريخية أخرى. إن برودون – وهو يعرف أن تأسيس المنافسة كان مرتبطاً بتطور الناس في القرن الثامن عشر– يجعل المنافسة ضرورة للروح البشرية في Partilus infidelium (أرض ناكري الجميل) وماذا كان يريد أن يصنع بكولبرت القرن السابع عشر العظيم؟

إن مشاريع وأعمال الدولة الحاضرة تأتي بعد الثورة. ويستنتج برودون وقائع منها ليظهر خلود المنافسة، ببرهانه إن كل الصناعات هي في حالة انحطاط وتقهقر.

ولنقل أنه توجد صناعات لم تصل بعد درجة المنافسة، وأن بعض الصناعات لا تزال تحت مستوى الإنتاج البورجوازي. إن هذا القول ليس إلا مقدرا لا يقدم لنا ولو برهانا صغيراً على خلود المنافسة.

إن منطق برودون يقود إلى هذا: المنافسة هي علاقة إجتماعية نطور بها قوانا الإنتاجية. إنه لا يعطي لهذا الحق نمواً وتطوراً منطقياً، بل يعطي اشكالاً – غالبا تكون نامية ومتطورة – عندما يقول أن المنافسة هي احتكار صناعي وهي حرية العصر الحاضر، وهي مسؤولية في العمل، وهي تشكل القيمة، وشرط من شروط تقدم المساواة ومبدأالإقتصاد الإجتماعي، ومرسوم يقرر المصير، وضرورة للروح اليشرية، وإلهام العدل الأبدي، والحرية في التقسيم والتقسيم في الحرية، وهي لائحة إقتصادية.

«إن المنافسة والتجمع لا تساند الواحدة الأخرى، وليستا مفترقتين، وكل من يتكلم عن المنافسة يفترض حالا هدفاً عامَاً. فالمنافسة إذن ليست أنانية. وخطيئة الإشتراكية الكبرى هي افتراضها أن المنافسة تهدم الجميع». (المجلد ١، صفحة ٢٢٣).

كل واحد يتكلم عن المنافسة يقصد هدفا عاماً، وهذا يبرهن أن المنافسة هي التجمع، وأنها ليست أنانية. ومن يتكلم عن الأنانية،الا يقصد هدفا عاماً؟ إن كل أنانية تعمل في المجتمع وبواقع المجتمع. وهي تفترض مسبقاً المجتمع؛ أي تفترض أهدافاً عامة، وحاجات عامة، ووسائل إنتاج عامة إلخ... ألا يكون عندئذ أن المنافسة والتجمع – الذي يتكلم عنه الإشتراكيون – غير مفترقين.

يعرف الإشتراكيون جيدا أن مجتمع الوقت الحاضرمبني على المنافسة. فكيف يقدرون اتهام المنافسة أنها تهدد المجتمع الحاضر، بينما يعمل الإثنان على تهديم يعضهما؟ وكيف يقدرون أن يتهموا المنافسة أنها تهدم المجتمع الذي سيأتي؟ إذ يرون في هذا المستقبل – على العكس – أنه يهدد المنافسة.

يقول برودون أن المنافسة معاكسة للإحتكار، وهكذا لا تكون ضد المجتمع.

كانت الإقطاعية – من أصلها – مناقضة للملكية البطريركية، وهكذا لم تكن تناقض المنافسة التي لم تكن موجودة بعد. فهل من هذا أن النافسة لا تناقض الإقطاعية؟

في الواقع أن المجتمع – والتجمع – هما مخارج تمثل كل مجتمع آخر، تمثل المجتمع الإقطاعي، كما تمثل المجتمع البورجوازي الذي هو تجمع قائم على المنافسة. فكيف يمكن أن يكون هناك إشتراكيون – فقط بوجود كلمة تجمع – يعتقدون أنهم يقدرون أن يدحضوا المنافسة؟ وكيف يقدر برودون نفسه أن يدافع عن المنافسة الإشتراكيين، إذ يصف المنافسة بكلمة تجمع؟

إن كل ما قلناه يشكل الناحية الجميلة للمنافسة، كما يراها برودون. فكيف ننتقل إلى الناحية الشريرة – الناحية السلبية – للمنافسة، ولمساوئها ولناحيتها الهدامة، ولصفاتها المؤذية؟

إن الصورة التي يراها برودون هي صورة قاتمة.

إن المنافسة تخلق التعاسة والشقاء، وتسبب الحرب المدنية، إنها«تغيرالمناطق والطبيعة»، وتمذج القوميات، إنها تسبب المشاكل عند العائلات وتخرب الرأي العام، إنها «تقلب أفكار الحرية والمساواة» والأخلاق وتهدم التجارة الحرة الشريفة ولا تقدم عوضا عنها قيمة ناتجة، وسعراً ثابتا وشريفا. إنها تخدع نظر كل شخص، حتى أنها تخدع الإقتصاديين. إنها تدفع الأشياء بعيدا حتى تهدم ذاتها.

إن برودون بعد كل ما يقول عنها من شر، أيمكن أن يكون هناك شيء أكثر ضررا وتخريبا من المنافسة على علاقات التجمع البورجوازي وعلى مبادئه وخيالاته؟

يجب أن يلاحظ جيداً أن المنافسة تصبح دوماً المهدمة الكبرى لعلاقات البورجوازية؛ لأنها تشجع على خلق قوى إنتاجية جديدة؛ أي خلق أحوال مادية لتجمع جديد. وفي هذا المجال على الأقل، نجد أن الناحية السيئة للمنافسة لها نقاطها المفيدة.

«إن المنافسة كنقطة إقتصادية هي نتيجة ضرورية لنظرية نتقيص وتخفيض المصاريف العامة». (المجلد الأول، صفحة ٢٣٥).

إن دوران الدم يجب أن يكون بالنسبة لبرودون نتيجة لنظرية هارفي.

«الإحتكار هو النهاية المتوقعة للمنافسة، والمنافسة تخلق الإحتكار بنفي مستمر لذاتها، إن خلق هذا الإحتكار هو بحد ذاته تبرير له... إن الإحتكار هو التناقض الطبيعي للمنافسة، ولكن بما أن المنافسة ضرورية، فأنها تنطبق وتستعمل فكرة الإحتكار بما أن الإحتكار مقعد كل فردية منافسة». (المجلد الأول، صفحة ٢٣٦-٢٣٧).

نحن نفرح مع برودون إذ يقدر ولو مرة على الأقل أن قاعدته بخصوص الفكرة Thesis والفكرة المناقضة Antithesis وكل واحد يعرف أن الإحتكار الحديث يتكون يواسطة المنافسة ذاتها.

إن برودون يتمسك بصورة شعرية، إن المنافسة المصنوعة «من كل تقسيم صغير للعمل هي نوع من السلطة، إذ يتمسك بها كل فرد بقوته واستقلاله». والإحتكار هو «مقعد كل فردية منافسة»، والسلطة تستحق هذا المقعد أكثر من غيرها.

إن برودون لا يتكلم عن شيء إلا عن الإحتكار الحديث الذي توجده المنافسة. ولكن كلنا يعلم أن المنافسة قد أوجدها الاحتكار الاقطاعي وهكذا فالمنافسة كانت في الأصل مناقضة للاحتكار وليس الاحتكار هو الذي كان مناقضا لها. وهكذا ليس الاحتكار الحديث فكرة بسيطة معاكسة، بل على العكس هو نتيجة الفكرة الحقة.

الفكرة: الاحتكار القطاعي قبل المنافسة.

الفكرة المعاكسة: المنافسة.

نتيجة الفكرة: إن الاحتكار الحديث هو نفي الاحتكار الاقطاعي طالما أنه يطبق قاعدة المنافسة ونفي المنافسة طالما أنه احتكار.

وهكذا فالاحتكار الحديث، الاحتكار البرجوازي هو احتكار نتيجة الفكرة أي نفي النفي أي اتحاد المتناقضات، إنه الاحتكار في الحالة المنطقية والطبيعية والصافية.

يناقض برودون فلسفته عندما يقلب الاحتكار البرجوازي إلى احتكار بدائي ومتناقض. إن السيد روسي الذي يعود إليه برودون مرات في موضوع الاحتكار – يظهر أنه يفهم أكثر نتيجة الفكرة للاحتكار البرجوازي –. وفي كتابه «بحث الاقتصاد السياسي» يميز بين الاحتكار الصناعي والاحتكار الطبيعي. ويقول إن الاحتكار الاقطاعي اصطناعي والاحتكار البرجوازي طبيعي منطقي.

إن الاحتكار شيء جيد – يحلل برودون – طالما أنه لائحة اقتصادية أو أنه انبثاق «عن الحقيقة الانسانية غير الشخصية». والمنافسة مرة أخرى، شيء جيد طالما أنها أيضا لائحة اقتصادية. لكن الحقيقة هو أن المنافسة والاحتكار هما شيئان عاطلان. والأسوأ هو أن المنافسة والاحتكار يبتلعان بعضهما. فماذا يجب ان نفعل؟ فتش عن نتيجة الفكرة لهاتين الفكرتين الخالدتين وانتزعهما من صدر الله إذ أنها بقيت هناك من زمان لا يحد.

لا نجد في الحياة الواقعية التناقض بين المنافسة والاحتكار بل نجد نتيجة تناقض الاثنين، وليس هذا التناقض قاعدة لكنه حركة، الاحتكار ينتج المنافسة، والمنافسة تنتج الاحتكار. الاحتكارات تصنعها المنافسة، والمنافسون يصبحون محتكرين، وإذا ضيق المحتكرون على منافستهم الودية بوسائل تجمعات جزئية، فإن المنافسة تزداد بين العمال، وكلما نمت جماعة البروليتاريا ضد الاحتكارات في أمة كلما رأينا أن المنافسة تصبح بائسة وضعيفة بين المحتكرين في أمم مختلفة. إن نتيجة الفكرة تقول إن الاحتكار يقدر أن يظهر ذاته فقط عندما يدخل في صراع مع المنافسة.

ولكي نسهل انتقال ديالكتيك للضرائب التي تأتي بعد الاحتكار، يكلمنا برودون عن العبقرية الاجتماعية التي تمشي وهي تتخبط لتصل زاوية الاحتكار، وتلقي ورائها نظرة بؤس وحزن وتهاجم بعد تفكير عميق كل المنتوجات إذ تفرض ضرائب وتخلق منظمة إدارية كاملة حتى تقدم كل الخدمات للبروليتاريا ولتدفع حقوق رجال الاحتكار. (المجلد الأول، صفحة ٢٨٤-٢٨٥).

وماذا نقدر أن نقول عن هذه العبقرية التي تسير بسرعة وتميل لليمين والشمال؟ وماذا نقدر أن نقول عن هذا السير الذي لايهدف إلا للقضاء على البرجوازي بفرض الضرائب بينما الضرائب هي الوسائل الوحيدة الحقة التي تعطي البرجوازي لحظة من الوقت ليحتفظ بنفسه كطبقة حاكمة؟

ومجرد إلقاء نظرة على الطريقة التي يصف بها برودون التفاصيل الاقتصادية يكفينا أن نقول – بالنسبة له – أن الضريبة على الاستهلاك تأسست بالنسبة للمساواة لكي تخفف الظلم الملقي على البروليتاريا.

لقد حققت الضريبة على الاستهلاك نموها الحقيقي منذ قيام البرجوازية وهي في يد الرأسمالي الصناعي، أي وهي كثروة اقتصادية تنتج وتزيد ذاتها باستغلال مباشر للعمل فإن الضريبة على الاستهلاك كانت وسيلة لاستغلال ثروة الأسياد الذين لم يفعلوا شيئا إلا الاستهلاك، ولقد حقق جيمس ستيوارت هذا الهدف الرئيسي للضريبة على الاستهلاك في كتابه «بحث مبادئ الاقتصاد السياسي» الذي نشره عشر سنوات قبل آدم سميث.

«في نظام الملكية المطلقة تجد الامير حسوداً من الثروة النامية وهكذا يضع الضرائب على الناس الذين تزداد ثروتهم. وفي نظام الحكومة المقيدة تحسب الضرائب على على هؤلاء الذين يصبحون فقراء بعد ان كانو اغنياء وهكذا فالملك المطلق يضع ضريبة على الصناعة وتوضع هذه الضرائب على نسبة أرباح كل شخص يفترض انه يربحها بمهنته وعمله. فالضريبة اذن تناسبية ال تصاعدية... أما في الحكومات المقيدة، نجد ان فرض الضريبة تكون عاى الاستهلاك». (المجلد ٢٢ صفحة ١٩٠-١٩١).

وبالنسبة للنتيجة المنطقية للضرائب ولميزان اتجارة والرصيد، حسب مفهوم برودون – نلاحظ أن البرجوازي الانكليزي عندما حصل على دستوره أيام حكم وليام أورانج، خلق طريقة جديدة للضريبة – ضريبة الرصيد العام وطريقة الجمارك المانعة – حالما استطاع البرجوازي أن يحقق هذا الهدف.

تكفي هذه الخلاصة القصيرة أن نقدم للقارئ فكرة حقة، فيما يتعلق بالضريبة وميزان التجارة، وبالرصيد وبالشيوعية والسكان، ونحن نتحدى النقد لكي ندرس هذه الفصول برزانة.

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

ميتافيزيك الاقتصاد السياسي
الملكية أو ريع الأرض


في كل حقبة تاريخية تطورت الملكية ونمت حسب مفهوم علاقات اجتماعية مختلفة، وهكذا لكي نعدد الملكية البرجوازية ماعلينا إلا أن نقدم عرضا عن كل العلاقات الاجتماعية للانتاج البرجوازي.

ولكي نحاول أن نحدد الملكية بأنها علاقات مستقلة أو لائحة مستقلة أو فكرة خالدة ومثالية، لا يكون هذا إلا خيالياً يمتطيه الميتافيزيك والفقه.

إن برودون – وهو يظهر أنه يتكلم عن الملكية عامة – يتكلم فقط عن ملكية الأرض أو ريع الأرض.

«إن أصل الريع، الملكية، هو شيء فوق الاقتصاد: إنه يوجد بوجود اعتبارات نفسية وأخلاقية وهذه الاعتبارات بعيدة الاتصال عن إنتاج الثروة» (المجلد ٢، صفحة ٢٦٥).

وهكذا يعني برودون أنه غير قادر أن يفهم الأصل الاقتصادي للريع والملكية، ويقول أن مقدرته تجبره أن ينسبها إلى اعتبارات أخلاقية ونفسية بعيدة الاتصال بانتاج الثروة، ولكن لها علاقة بضيق أفقه التاريخي. يؤكد برودون أنه يوجد شيء صوفي وعجيب فيما يتعلق بأصل الملكية. والآن – لننظر أعجوبة في أصل الملكية – أو لنعجل علاقة سرية بين الانتاج ذاته وتوزيع أدوات الانتاج. أليس هذا – لنستعمل لغة برودون – رفض أكيد لكل ادعاءات علم الاقتصاد؟

إن برودون يضيف على نفسه قوله إنه في الحقيقة السابقة للتطور الاقتصادي – أي الرصيد – عندما كانت الاسطورة سبباً لاختفاء الحقيقة، وعندما هدد النشاط الانساني بفقدان ذاته، أضحى ضرورياً أن يرتبط الإنسان بقوة أكثر بالطبيعة، والآن كان الريع سعر هذا العقد أو الرباط. (المجلد ٢، صفحة ٢٦٩).

L’homme aux quarante écus[١] تنبأ به برودون للمستقبل: «السيد الخالق. كل فرد سيد في عالمه، ولكن، ليس ممكناً أن تجعلني أعتقد ان العالم الذي يعيش به مصنوع من البذور». في عالمك – حيث الرصيد النقدي كان وسيلة لفقدان الشخص في فراغ عميق، من الممكن أن تصبح الملكية ضرورية حتى تعمي إنسان الطبيعة. وفي عالم الانتاج الحقيقي حيث كانت ملكية اﻷرض دوماً تسبق الرصيد النقدي، نجد أن خوف برودون لم يكن موجوداً.

ولدى قبول فكرة الريع ولو مرة – مهما كان أصلها – تصبح موضوع مفاوضات مضادة بين المزارع ومالك الأرض. وماهي النتائج القصوى لهذه المفاوضات، أي ما هو المعدل العام للريع؟ هذا ما يقوله برودون:

«ﺇن نظرية ريكاردو لاتجيب هذا السؤال. عندما ابتدأت المجتمعات، عندما كان الإنسان جديداً على الأرض، لم تكن أمامه إلا الغابات الواسعة الضخمة، عندما كانت الأرض واسعة وعندما كانت الصناعة مبتدئة، عندما كان كل هذا الريع لا يزال عدماً. واﻷرض – ولم تكن بعد نتيجة تشكيل العمل – كانت موضوع منفعة ولم تكن قيمة تبادل، كانت الأرض عامة ولم تكن اجتماعية، ورويداً رويداً نرى أن تكاثر العائلات وتقدم الزراعة أظهر قيمة الأرض وأصبح العمل يعطي الأرض قيمتها أي ما تستحقه: ومن هذا وجد الريع، فكلما أعطى الحقل ثماراً أكثر بنفس كمية العمل كلما كانت قيمته ترتفع! وبما أن هدف المالكين كان الحصول على كل ما تنتجه الأرض لذلك أصبحت أجور المزارع أقل – يعني أقل من تكاليف الانتاج – وهكذا تبعث الملكية آثار العمل لكي تأخذ كل الانتاج الذي يزيد المصاريف الحقيقية. وبما أن المالك كان يحقق عملاً خارقاً، فالمزارع إذاً ليس إلا عاملاً مسؤولاً – هكذا تريد العزة الالهية – وعليه أن يؤدي للمجتمع كل زيادة عن أجرة المشروع... فالريع بجوهره هو وسيلة لتوزيع العدل وهو وسيلة من ألوف الوسائل التي تستخدمها عبقرية الاقتصاد لتحقق المساواة – لقد حصل تناقض عظيم بين المزارعين والملاكين من جراء تقدير الأرض – ولكن بدون وقوع اصطدام – وكان هذا التناقض يهدف إلى تسوية ملكيات الأرض بين مستغليها وصانعيها... وما كانت هذه الملكية السحرية تحتاج ﺇلا أن تنزع من المستغل فائض الانتاج الذي كان يعتبره ملكاً وحقاً له. فالريع أو باﻷحرى الملكية، حطم الأنانية الزراعية وأوجد واقعاً لايمكن أن تخلفه لاقوة ولا تقسيم الأرض... والتأثير الأخلاقي الذي تركته الملكية في الوقت الحاضر هو العمل على توزيع الريع» (المجلد ٢، صفحة ٢٧٠، ٢٧٢).

يمكن اختصار كل هذا المزيج من الكلام هكذا: يقول ريكاردو أن زيادة سعر المنتوجات الزراعية عن تكاليف إنتاجها – متضمناً الربح العادي والفائدة على رأس المال – يعطينا مقياس الريع. إن برودون يصيب أكثر ﺇذ يجعل المالك يتدخل وينتزع من المستغل كل فائض انتاجه الذي يزيد عن تكاليف الانتاج. إنه ينتفغ من تدخل المالك لكي يشرح الريع، إنه يجيب على السؤال عندما يصيغ قاعدة لنفس المسألة ويضيف عليها مقطعاً.

ولنلاحظ أنه لدى تحديد الريع من جراء اختلاف خصوبة الأرض، نجد برودون يعني أصلاً جديداً له – بما أن الأرض قبل وجودها تشكل درجات متفاوتة الخصوبة – لم تكن في نظره قيمة التبادل بل كانت عامة، ماذا حدث ﺇذاً لأسطورة الريع التي وجدت من ضرورة ﺇرجاع إنسان للأرض كاد أن يفقد نفسه في أبدية فراغ هائل؟

والآن لنحرر نظرية ريكاردو من سيطرة القوة الالهية ومن القالب الذي صاغها به برودون؟

ﺇن الريع – حسب نظرية ريكاردو – هو ملكية الأرض في حالتها البرجوازية، أي ملكية الاقطاع التي أصبحت خاضعة لشروط الانتاج البرجوازي.

لقد رأينا – بالنسبة لنظرية برودون – أن سعر كل الأشياء يتحدد بتكاليف إنتاجها، بالاضافة للربح الصناعي، أي وقت العمل المستخدم. ففي الصناعة الآلية نجد سعر المنتوج المحصول بأقل كمية عمل ممكن ينظم سعر كل السلع الاخرى التي هي من نفس النوع، أخذه بعين الاعتبار أن أرخص أدوات الانتاج وأكثرها انتاجية يمكن إكثارها للانهاية وأن المنافسة تخلق سعر السوق، أي تخلق سعراً عاماً لكل المنتوجات من نفس النوع.

وفي الصناعة الزراعية على العكس، نجد أن سعر المنتوج المحصول عليه بأكبر كمية عمل ينظم سعر المنتوجات الأخرى التي هي من نفس النوع. ففي الدرجة لا يقدر أحد – كما هو المثال في الصناعة الآلية أن يكثر كما يريد أدوات الانتاج التي لها نفس درجة الانتاج، أي إيجاد أراضي لها نفس درجة الخصوبة. وهكذا، لدى زيادة السكان – نجد أن الأرضي ذات القيمة المنخفضة، يوظف فيها رأسمال قليل. وفي كلا الحالتين تتطلب كمية أكبر من العمل للحصول على إنتاج أقل. وبما أن حاجات السكان تطلبت ضرورة زيادة العمل، فإن منتوج الأرض الذي يكلف استغلالها أكثر يكون كبيع أرض استغلالها أرخص. وبما أن المنافسة تخلق سعر منتوج الأرض، فإن زيادة سعر المنتوجات – الذي يعود لتربة أحسن يزيد على تكاليف انتاجها – هذا الانتاج الذي يشكل الريع. ولو كان يقدر شخص أن يجد أراضي بنفس درجة الخصوبة ولو كان يقدر – في الصناعة الآلية – أن يؤدي باستمرار إنتاج الأشياء وبشكل أرخص وتقديم آلات إنتاج أكثر وأرخص، وأن توظيف رأس المال الاضافي كان يعطي نتيجة كاﻷول، لكان سعر المنتوجات الزراعية يتحدد بسعر السلع المنتوجة بأحسن وسائل الانتاج – كما رأينا بمثل سعر المنتوجات المصنوعة. ولكن الريع يختفي منذ هذه اللحظة.

ولو كانت نظرية ريكاردو كلها حقيقة، لكان من الضروري لرأس المال أن يستعمل بحريته في فروع الصناعة المختلفة، لكننا نجد منافسة قديمة بين الرأسماليين تحصر الأرباح في مستوى واحد متساو، ولكنا نجد المزارع رأسمالياً صناعياً يطلب توظيف رأسماله في أرض ثانوية لينال ربحاً مساوياً ﻷي ربح في أي صناعة، ولو كان هذا لكان الاستقلال الزراعي يخضع للصناعة ذات الانتاج الضخم، وأخيراً لكان مالك الأرض نفسه لايهدف ﺇلا لارجاع دراهمه.

لا يمكن أن يحدث – كما حدث في ايرلندا – أن الريع لا يوجد رغم أن تطور الأرض ونموها وصل درجة قسوى. والريع، بما أنه زيادة عن الأجور وعن الربح الصناعي لا يمكن أن يوجد حيث لا تكون واردات مالك الأرض شيئاً.

وهكذا، بعد أن تتصور تحويل مستغل اﻷرض أو المزارع إلى عامل بسيط، وأن ننتزع من المستغل فائض انتاجه الذي لا يتنازل عنه ﻷنه يعده خاصاً به، فإن الريع يقف مانعاً لصاحب اﻷرض ليس بواسطة الخادم بل بواسطة من يجعل صاحب الأرض أن يقف مضاداً للرأسمالي الصناعي وليس مع الخادم أو مع العبد أو مع دافع الفريضة أو مع عامل الاجرة.

إذا اعتبرنا ولو مرة ريع الأرض، فإن ملكية الأرض لاتعود تملك فائض تكاليف الانتاج التي تتحدد بالأجور وبأرباح الصناعة. لذلك نجد أن ريع اﻷرض انتزع من مالك اﻷرض قسماً من دخله. وهكذا مر وقت طويل قبل أن يحل الرأسمالي الصناعي محل المزارع الاقطاعي. ففي ألمانيا مثلاً، ابتدأ هذا التحويل قي آخر القسم الثالث من القرن الثامن عشر. وفي انكلترا فقط كانت هذه العلاقة قائمة بين الرأسمالي الصناعي ومالك الأرض.

وطالما أن مستغل الأرض الذي قال عنه برودون، موجود فلا وجود للريع. وفي الوقت الذي يوجد فيه الريع، فإن مستغل الأرض لا يبقى المزارع بل يكون العامل أي مزارع مستغل الأرض. إن تحقير العامل وجعله بمثابة شغيل بسيط، أي شغيل يومي، وجعله يعمل للرأسمالي الصناعي، وتدخل الرأسمالي الصناعي – وهو يستغل اﻷرض كأنه يستغل مصنعاً – وتمويل مالك اﻷرض من حاكم مطلق صغير إلى مرابي فظيع، هذه كلها هي العلاقات المختلفة التي يعبر عنها الريع.

ﺇن الريع – في نظرية ريكاردو – هو الزراعة البطريركية المتحولة لصناعة تجارية وهو الرأسمال الصناعي الذي يستعمل لاستثمار الأرض وهو برجوازية المدنية المطبقة في القرية. والريع – عوضاً ان يوجد الانسان بالطبيعة. قد ربط استغلال الأرض بالمنافسة. وعندما تعد ملكية اﻷرض ريعاً فان ملكية اﻷرض ذاتها تصبح نتيجة للمنافسة ولذلك فهي من ذلك الوقت تعتمد على قيمة السوق للانتاج الزراعي. وكريع، تصبح ملكية الأرض مادة للتجارة. ان الريع ممكن تحقيقه فقط من لحظة تطور الصناعة القعرية ومن لحظة ما ينتج عنها تنظيم اجتماعي، وهذا م اجبر مالك الأرض ان يحصر هدفه في الارباح النقدية. وان ينظر ال العلاقة النقدية لمنتوجاته الزراعية – وفي الواقع ينتظر من ملكيته للاْرض ان تكون تربة آلة لتحصيل النقد. لقد جعل الريع مالك ﻷرض ان يطلق التربة، وان يطلق الطبيعة حتى انه لا يحتاج ان يعرف ملكياته، وهذا ما حدث في انكلترا. فيما يتعلق بالمزارع وبالرأسمالي الصناعي والشغيل الزراعي، فانهم لايرتبطون باﻷرض التي يستغلونها اكثر من المستخدم والشغيل في المصانع بالنسبة للقطن والصوف الذي يصنعونه، انهم يسعرون برباط فقط لانتاجهم النقدي. وهناك بعض الذين يعدون أنفسهم تقدميين تقدمون صلواتهم لاعادة الاقطاعية والحياة البطريركية الصالحة وعادات آبائنا وأجدادنا الصالحين. ان اخضاع التربة للقوانين التي تحكم كل الصناعات اﻷخرى يخضع دائماً للمصالحة.وهكذا يمكن القول أن يقال ان الريع أصبح دافع القوة التي ادخلت الشعر إلى حركة التاريخ.

ﺇن ريكاردو بعد ان جعل الانتاج البرجوازي ضرورياً لتحديد الريع – يطبق فكرة الريع بالنسبة لملكية اﻷرض في كل العصور وفي كل البلدان. وهذا خطأ تجده عند كل الاقتصاديين الذين يمثلون علاقات الانتاج البرجوازية كلوائح أبدية.

يستنتج من الهدف اﻹلهي للريع الذي هو بالنسبة لبرودون تحويل المستغل إلى شغيل مسؤول ليحصل على مكافأة الريع المتساوية.

ﺇن الريع، كما رأينا، يشكل بالسعر المتساوي لكل منتوجات اﻷراضي ذات الخصوبة غير المتساوية حتى أن هكتوليتر القمح الذي كلف ١٠ فرنكات يباع ﺑ ٢٠ فرنكاً إذ أن تكاليف الانتاج ترتفع إلى ٢٠ فرنكاً زيادة عن خصوبة تربة من نوع أدنى.

وطالما أن الحاجة تجبر شراء كل المنتوجات الزراعية التي تأتي للسوق، فإن سعر السوق يتحدد بتكاليغ أغلى منتوج. وهكذا نرى أن هذا التساوي في السعر – الناتج عن المنافسة وليس عن اختلاف خصوبة الأرضي – هو الذي يحفظ لصاحب أحسن تربة ريعاً من ١٠ فرنكات لكل هكتوليتر يبيعه الرجل الذي يشتغل بأرضه.

لنفترض أن سعر القمح يحدد بوقت العمل الذي تحتاج لانتاجه، فنجد أن هكتوليتر القمح الذي نحصل عليه من تربة أحسن يباع ﺑ ١٠ فرنكات، بينما هكتوليتر القمح الذي يحصل عليه من نوع أقل يكلف ٢٠ فرنكاً. لدى قبوانا بهذا نرى أن معدل سعر السوق يكون ١٥ فرنكاً. وبما أن سعر السوق يتبع قانون المنافسة فانه يصبح ٢٠ فرنكاً. وإذا كان معدل السوق ١٥ فرنكاً فعندئذ لا تسنح فرصة لأي موزع أن يكون له ريع. يوجد الريع فقط عندما يستطيع شخص أن يبيع ﺑ ٢٠ فرنكاً هكتوليتر القمح الذي يكلف المنتج ١٠ فرنكات. ويفترض برودون تساوي سعر السوق بتكاليف إنتاج غير متساوية لكي يصل إلى مشاركة متساوية لانتاج غير متساو.

نحن نفهم اقتصاديين مثل: هيدلتش، وتربليو، وميل، وآخرين يقولون أن الريع يجب أن يعطي للدولة لكي تقوم مقام الضرائب. ﺇن هذا التعبير صريح لكره الرأسمالي الصناعي وهذا العمل يحمل لمالك الأرض لنفس النتيجة.

ولكن لنجعل أولاً سعر هكتوليتر القمح ٢٠ فرنكاً حتى نجعل توزيعاً عاماً ﻟ ١٠ فرنكات أتعاب اضافية على المستهلك، وهذا يكفي لجعل العبقرية الاجتماعية أن تتبع طريقها الملتوي بحزن – وتطرق برأسها خجلاً.

يصبح الريع – حسب تعبير برودون «تقسيم أرض كبيرة متناقضة بنظر المزارع ومالك الأرض... تكون نتيجتها الكلية مساوية لملكية الأرض لمصلحة المستغلين للتربة والصناعيين» (المجلد ٢، صفحة ٢٧).

ﺇن تقييم أية قطعة أرض قائمة على الريع لتكون ذات قيمة واقعية، وشروط المجتمع الحاضر يجب أن يكون مختلفاً عن التقييم.

والآن أظهرنا أن ريع المزرعة الذي يدفعه المزارع لسيده يعبر عن الريع بالضبط في البلدان المتقدمة في الصناعة والتجارة. حتى أن هذا الريع لا يتضمن الفائدة المدفوعة لصاحب الأرض على رأس المال المستثمر في الأرض. إن مركز الأرض وجوارها من المدن وعوامل أخرى تؤثر على ريع المزرعة وبشكل ريع الأرض. هذه الاسباب تعد كافية لتبرهن عن عدم دقة تقييم الأرض القائم على الريع.

ومن جهة ثانية، يمكن للريع أن لا يكون الدليل الثابت عن وجه خصوبة قطعة الأرض بما أن كل تغيير في تطبيق علم الكيمياء الحديث يغير التربة، والمعرفة الجيولوجية تبدل اليوم كل تقديرات الخصوبة النسبية. لقد كان منذ ٢٠ سنة حتى تم استعمال الأرضي في قرى انكلترا الشرقية. لقد تركت غير مفلوحة نتيجة للجهل.

وهكذا فالتاريخ وهو قاصر على أن يجد في الريع تقييماً حاضراً للأرض، لا يعمل شيئاً ﺇلا أنه يغير ويقلب تقييمات الأرض الحاضرة.

ونقول أخيراً إن الخصوبة ليست صفة طبيعية كما يظن، إنها مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية للوقت السائد. يمكن أن تكون قطعة أرض خصبة جداً لزراعة القمح، ولكن السعر المحدود يجعل الفلاح يفلبها إلى مرعى طبيعي ويجعلها غير خصبة.

لقد فرض برودون تقييمه للأرض – هذا التقييم الذي ليس له قيمة لتقييم أرض عادية – ليبرهن فقط عن هدف العزة الالهية للريع.

يتابع برودون قائلاً «إن الريع هو الفائدة المدفوعة على رأسمال لايغنى – وهو الأرض. وبما أن رأس المال قادر أن لا يزيد في مادته لكن في تحسين طريقة استعماله، نستنتج أنه بينما نرى فائدة أو ربح قرض يميل للنقصان تدريجياُ بواسطة غزارة رأس المال، فإن الريع يميل دوماً للزيادة بواسطة تكميا الصناعة. ومن هذا ينتج تحسين في استعمال الأرض... وهذا هو الريع في جوهره». ( المجلد ٢، صفحة ٢٦٥).

يرى برودون هذه المرة في الريع كل أوصاف الفائدة ما عدا أنه ينبثق من رأسمال له طبيعته الخاصة. هذا الرأسمال هو الأرض، رأسمال أبدي «غير قادر ان يزداد في مادته لكن بتحسين طريقة استعماله». ونجد في تقدم المدنية أن الفائدة تميل باستمرار للهبوط، بينما يميل الريع للارتفاع دوماً. تهبط الفائدة بسبب غزارة رأس المال، ويرتفع الريع بسبب التحسين الذي يدخل على الصناعة والتي تنتج إذ تنتفع دوماً من الأرض.

وهذه هي نظرية برودون في جوهرها.

دعنا بادىْ الاْمر نفحص إلى أي حد نعتبرها حقيقة عندما نقول أن الريع هو فائدة على رأس المال.

إن الريع بالنسبة لمالك الأرض نفسه يمثل فائدة على رأس المال الذي كلفته ﺇياه الأرض، أو الرأسمال الذي حصل عليه من بيع الأرض ولكنه في بيع وشراء الأرض فإنه يبيع أو يشتري ريعاً. والسعر الذي يدفعه ليجعل من نفسه قابضاً للريع ينظم عامة بنسبة الفائدة وليس له علاقة بطبيعة الريع. إن الفائدة على الرأسمال الموظف في الصناعة أو في التجارة. وهكذا بالنسبة الذين لايميزون بين الفائدة التي تمثلها الأرض لصاحبها وبين الريع ذاته فان فائدة رأس مال الأرض تنقص أكثر من رأس مال يوظف في أي عمل آخر. ولكن السؤال ليس مجرد مسألة بيع أو شراء سعر الريع أو قيمة السوق للريع أو ريع الرأسمال، إنه سؤال عن الريع ذاته.

ﺇن ريع المزرعة يمكن أن يطبق ثانية – ليس كريع صاف – الفائدة على رأسمال موظف في الأرض. وفي هذه اللحظة يستلم السيد هذا القسم من ريع المزرعة، ليس كصاحب أرض بل كرأسمالي! ولكن ليس هذا هو الريع الصافي الذي نتكلم عنه.

الأرض طالما أنها لا تستغل كوسيلة إنتاج لا تكون رأسمالاً. والأرض كرأسمال يمكن أن يزداد كما تزداد كل وسائل الانتاج. ولا شيء يضاف لمادتها لنستعمل لغة برودون – لكن الأرضي التي تخدم كوسائل إنتاج تتكاثر. وإذا كنا نستعمل رؤوس أموال إضافية لاْرض تحولت إلى وسيلة إنتاج فإن الأرض تزداد بزيادة رأس المال بدون إضافة أي شيء على الأرض كمادة، يعني لا نضيف شيئاً لامتداد الأرض... إن أرض برودون كمادة هي التراب وتحديداته. وفيما يتعلق بالأبدية التي يصف بها الأرض فإن لها صفة مادة. الأرض كرأسمال ليست خالدة أكثر من أي رأسمال آخر.

إن الذهب والفضة اللذين يعطيان فائدة، هما دائمان وأبديان كالأرض. وإذا هبط سعر الذهب أو الفضة – بينما يبقى سعر الأرض في ارتفاع – فإن هذا الهبوط لا لكثرة أو قلة طبيعته الأبدية.

إن الأرض كرأسمال هي رأسمال ثابت، لكن الرأسمال الثابت يستعمل كرأسمال متداول. إن التحسينات التي تطرأ على الأرض تحتاج لتجديد الانتاج، وهذا يثبت تحويل المادة إلى وسيلة انتاج. ولو كانت الأرض كرأسماية أبدية، لكانت بعض الأرضي تمثل مظهراً مختلفاً عن المظاهر التي هي اليوم، ونلقي نظرة على الكمبانيا الرومانية وسيسلي كما كانت في ازدهارهما الماضي.

توجد أوقات تختفي الأرض كرأسمال رغم أن التحسينات تبقى في الأرض.

ففي الدرجة الأولى، يحدث هذا كل وقت يقضي على الريع الصافي بمناسبة أراض جديدة وأكثر خصوبة، وفي الدرجة الثانية، إن التحسينات التي يمكن أن تكون ذات قيمة في وقت ما تبطل أن تكون ذات قيمة عندما تصبح عامة وفقاً لتطور الزراعة العلمية.

ﺇن ممثل الأرض كرأسمال لا يكون صاحب الأرض بل هو المزارع. والنتائج التي تقدمها الأرض كرأسمال هي الفائدة والربح الصناعي وليس الريع. توجد أراضي تعطي فائدة وربحاَ لكنها لاتعطي ريعاً.

وباختصار، فالأرض طالما أنها تعطي فائدة فهي أرض رأسمال. بما أن أرض رأسمال لاتعطي ريعاً، اذن ليست هي ملكية أرض. إن الريع يحصل على العلاقات الاجتماعية حيث يحصل استغلال الأرض. ولا يمكن أن يكون الريع نتيجة لطبيعة الأرض. إن الريع هو نتاج اجتماع وليس نتيجة للتربة.

«ﺇن التحسينات في استعمال الأرض» نتيجة «لتكميل الصناعة» تسبب – بالنسبة لبرودون – ارتفاعاً مستمراً للريع. يسبب هذا التحسين هبوطه الزمني المؤقت.

وأين نضمن أي تحسين زراعي أو صناعي؟ عندما نجعل العامل ينتج أكثر وعندما نجعل العامل ينتج أقل، شكراً لهذه التحسينات – فالعامل يتخلص من استعمال كمية عمل أكبر لانتاج أصغر نسبياً، ولا يحتاج أن يعود للتربة الثانوية وأن يوظف رأسمالاً لنفس الأرض التي تبقى منتجة بالتساوي مع غيرها.

وهكذا فإن هذه التحسينات، وهي أبعد من أن تحقق ريعاً كما يقول برودون تصبح على العكس صعوبات تمنع تحقيقها.

ﺇن ملاكي الأرض الانكليز في القرن السابع عشر لم يكونوا يتعلقون بهذه الحقيقة كي يعارضوا تقدم الزراعة لانهم يخافون ان تنقص مداخيلهم.



[١] الرجل الذي ينال ٤٠ اكو – هو بطل قصة فولتير لنفس العنوان: هو رجل متواضع وفلاح يعمل بكد ونشاط وينال دخلاً سنويا مقداره ٤٠ اكو.

بؤس الفلسفة
الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون

ميتافيزيك الاقتصاد السياسي
اضرابات واتحدات العمال


كل حركة ارتفاع في الأجور ليس لها إلا تأثير أوحد وهو ارتفاع أسعار القمح والخمر الخ. أي تأثير في القلة والعوز. وماهي الأجور؟ هي سعر تكاليف القمح الخ. وهي السعر الجزئي لكل شيء ونقدر أن نقول أكثر من هذا: إن الأجور هي نسبة العوامل التي تشكل الثروة وهي استهلاك انتاج كل يوم يقوم به العمال. والآن لنشك في الأجور... أي لنقدم لكل منتج حصة أكبر من انتاجه، وهذا شيء مناقض. وإذا كان الارتفاع يتحدد لعدد صغير منا الصناعات الاخرى، فإن هذا الارتفاع يسبب اضطراباً عاماً في التبادل، أي يسبب عوزاً وقلة... من المستحيل، اصرح، ان الاضرابات التي يتبعها زيادة في الأجور لاتتحدد في الاتفاع عام للاسعار: هذا أكيد كما أن ٢ + ٢ = ٤ ( المجلد ١، صفحة ١١٠ و١١١).

أولاً – لا يوجد ارتفاع عام للاسعار. إذا كان كل شيء قد تضاعف بنفس نسبة ارتفاع الأجور، فإننا لانسمي هذا ارتفاع أسعار، والتعبير هو التغيير الوحيد.

وثانياً – ﺇن ارتفاعاً في الأجور لا يؤثر كثيراً أو قليلاً في ارتفاع عام لسعر البضائع، لو أن كل صناعة استخدمت نفس عدد العمال بالنسبة لرأسمال ثابت أو بالنسبة للادوات المستعملة، فإن ارتفاعاً عاماً في الأجور ينتج هبوطاً عاماً في الارباح وسعر البضائع لا يتغير.

ولكن فيما يتعلق بالعمل اليدوي والرأسمال الثابت فلا يكون نفس الشيء في صناعات مختلفة، إذ أن كل الصناعات التي تستخدم كمية أكبر نسبياً من رأسمال وعمال أقل، ستكون مجبرة عاجلاً أو آجلاً أن تخفض سعر بضائعها. و في الحالة المعاكسة، حيث أن سعر بضائعها لا يخفض، فإن سعرها سيعلو أكثر من مستوى الأرباح العام. ليست الآلات بكاسبي أجور إذن، نرى أن ارتفاعاً عاماً في الأجور يؤثر أقل في الصناعات التي إذا قابلناها بالصناعة الاخرى، فإنها تستخدم آلات أكثر مما تستخدم عمالا. ولكن الأرباح التي تعلو أكثر من معدل النسبة تكون أرباحاً انتقالية. وهكذا – رغم وجود بعض الذبذبات – فإن ارتفاعاً عاماً في الأجور سيعود – لا كما يقول برودون إلى زيادة عامة في الأسعار – بل إلى هبوط جزئي، أي هبوط في سعر البضائع التي تصنع بالدرجة الاْولى بواسطة الآلات.

ﺇن ارتفاع أو انخفاض الاْرباح والأجور تعبر عن النسبة التي يشارك فيها معظم الرأسماليون والعمال في إنتاج يوم عمل بدون أن يؤثروا في معظم الأوقات بسعر المنتوج. ولكن «الاضرابات التي يتبعها زيادة في الأجور تظهر في ارتفاع عام للاسعار في قلة وعوز». هذه ليست إلا أفكاراً تزخر فقط في دماغ شاعر لا يفهم.

نرى في انكلترا أن الاضرابات تسبب ارتفاعاً لدى اختراع وتطبيق الآلات الجديدة. كانت الآلات – كما يقال – السلاح الذي يستخدمه الرأسماليون ليقهروا تمرد العمل المختص. إن آلة الغزل التي تعمل لذاتها – وهي أعظم اختراع صناعي حديث – جردت النساجين من عملهم وجعلتهم يتمردون: لو لم يكن للاضرابات والاتحادات إلا جعل العبقرية الميكانيكية تعمل ضدهم، لكلنوا لايزالون بفرضون تأثيراً على نمو الصناعة.

يتابع برودون: «أجد في كتاب نشره ليون فوشر... أيلول سنة ١٨٤٥ أن العمال الانكليز كانوا لوقت ما قد أقلعوا عن عادة الاتحاد الذي هو تقدم يجب تهنئتهم عليه: لكن هذا التحسن في أخلاق العمال يأتي بالدرجة الأولى عن ثقافتهم الاقتصادية. لقد صرح عامل نساج في طاحونة في اجتماع بولطن «يستعمل الأسياد الأجور أوقات الانخفاض والأزمات كسوط يستعملونه إن أرادوا أو ما أرادوا. إن المبدأ المنظم هو علاقة العرض بالطلب، وليس للأسياد هذه القوة،... حسناً فعلت». يصرخ برودون «هؤلاء هم عمال عاقلون مدربون جيداً انهم نموذج للعمال الخ. أن فقراً كهذا لم يوجد في انكلترا، وسوف لا يعبر القنال» ( المجلد ١، صفحة ٢٦١، ٢٦٢ ).

كانت بولطن من بين المدن الانكليزية إحدى المدن حيث كانت التقدمية فيها نامية أكثر من المدن الأخرى. ويعرف عمال بولطن أنهم ثوريون أكثر من أي عمال آخرين. وفي وقت اضطراب انكلترا الذي سبب القضاء على قوانين القمح، فكر الصناعيون الانكليز أنهم كانوا يقدرون ما إن يتفقوا مع مالكي الأرض إذا هم دفعوا العمال إلى الامام. ولكن بما أن مصالح العمال كانت مناقضة لمصالح الصناعيين كما كانت مصالح الملاكين تناقض مصالح الصناعيين فكان من الطبيعي أن الصناعيين سيكونون ضد العمال في اجتماعهم. وماذا فعل الصناعيون؟ إنهم نظموا اجتماعات مؤلفة من رؤساء العمل ومن عدد صغير من العمال الاْذكياء – كما في بولطن ومانشستر – ان يشاركوا في الاجتماعات حتى يحتجوا ضدهم ومنعوا من القبول على أساس أنهم لا يحملون تذاكر حضور – هذا الاجتماع الذي كان يقبل من كل حامل بطاقة دخول. لكن حاملي الاعتراضات تجمهروا حول الجدران وأعلنو اجتماعات عامة. وكلما عقد اجتماع من هذه الاجتماعات، كنت ترى جرائد الصناعيين يصفونه بروعته ويصفون الخطابات التي ألقيت. ومما لاشك فيه أن رؤساء العمل هم الذين ألقوا الخطابات وليس الصناعيين. وكانت جرائد لندن تكتبها كلمة كلمة. و قد خلط برودون بين رؤساء العمل والعمال.

و لو كانت الاضرابات سنة ١٨٤٤ و ١٨٤٥ قد جذبت انتباهاً أقل من قبل، ذلك لأن سنة ١٨٤٤ – ٤٥ كانت أول سنتين ازدهرت فيهما الصناعة الانكليزية منذ سنة ١٨٣٧، ومع ذلك لم تحل ولا نقابة عمال واحدة.

والآن لنستمع لرؤساء عمال بولطن: بالنسبة لهم ليس للصناعيين قيادة أو سلطة على الأجور لأن ليس لهم سلطة على السوق العالمي. ولهذا السبب يريدون أن يفهم الغير أن الاتحادات يجب أن لا تشكل حتى تنال زيادة في الأجور من الأسياد، وبرودون على العكس، يمنع الاتحادات لخوفه أن ارتفاعاً في الأجور سيتبعه وهذا الارتفاع في الأجور يقود للقلة والعوز، لا نحتاج أن نقول من جهة يوجد اتحاد ضمني وودي بين برودون ورؤساء العمل و هذا الاتحاد: إن ارتفاعاً في الأجور يعادل ارتفاعاً في أسعار المنتوجات.

ولكن هل الخوف من القلة هو السبب الحقيقي لمخاوف برودون؟ كلا، إنه ينزعج من رؤساء عمل في بولطن لأنهم لا يحددون القيمة بالعرض والطلب و لأنهم لايعتبرون القيمة مشكلة، أي القيمة التي مرت بطور التشكيل، أي لايهتمون بتشكيل القيمة وهي تتضمن تبادلاً دائماً لكل نسب العلاقات و علاقات النسب، مع العزة اﻹلهية بجانبها.

«إن إضراب العمال غير شرعي، وليس قانون العقوبات الذي يقول هذا، بل إن الطريقة الاقتصادية وضرورة النظام المستتب هي التي تقوله، إن عاملاً واحداً أو عمالاً أفراديين لا يقدرون أن يقوموا بعمل ما بل إن اتحادهم ضروري ليقاوموا الاحتكار، إن عملهم هذا لا يقره المجتمع». (المجلد ١، صفحة ٣٣٢ و٣٣٥).

يريد برودون أن يوجد مادة من مواد قانون العقوبات وليراها ضرورة و نتيجة عامة لعلاقات الانتاج البرجوازي.

نالت الاتحادات في انكلترا حقوقها بواسطة البرلمان وكانت الطريقة الاقتصادية هي التي أجبرت الألمان أن يمنحها حقوقها. ففي سنة ١٨٢٥ على أيام حكم الوزير هسكون كان على البرلمان أن يعدّل القانون حتى يطابق الأحوال الناتجة عن المنافسة الحرة، وهكذا كان من الضروري القضاء على قانون يمنع اتحادات العمال. وكلما نمت الصناعة الحديثة والمنافسة كلما دعت عوامل جديدة لتقوي الاتحادات وعندما يصبح الاتحاد واقعا اقتصادياً يصبح عندئذ حقاً شرعياً.

وهكذا فإن مادة قانون العقوبات تبرهن على الأكثر أن الصناعة الحديثة و المنافسة لم تكونا ناميتيين في ظل "التجمع الدستوري" وفي الأمبراطورية.

يتفق الاقتصاديون والاشتراكيون (اشتراكيو ذلك الوقت: أتباع فوريية في فرنسا وأتباع أوين في انكلترا) على نقطة واحدة: القضاء على الاتحادات. إنهم يتحيزون بدوافع مختلفة لتحقيق القضاء على الاتحاد.

يقول الاقتصاديون للعمال: لا تندموا. وباتحادكم تمنعون التقدم الطبيعي للصناعة. إنكم تمنعون الصناعيين من تنفيذ وتحقيق أوامرهم، إنكم تخربون التجارة وتؤخرون تقدم الآلات، وعندما تجعلون عملكم غير نافع فإنكم تجبرون أن تقبلوا أجوراً أقل. وعلاوة على هذا ورغم كل ما تفعلونه، فإن اجوركم ستتحدد دوماً بعلاقة الأيدي المطلوبة بالنسبة للأيدي المعروضة، ويكون مجهود مضحك وخطر لكم أن تثوروا ضد القوانين الأبدية للاقتصاد السياسي!

يقول الاشتراكيون للعمال: لا تتحدوا لأنكم ماذا تربحون من اتحادكم؟ ارتفاع في الأجور؟ سيبرهن لكم الاقتصاديون بوضوح أن الشيء القليل الذي تنالونه إذا نجحتم سيكون نتيجة سقوط دائم. إن المحاسبين الماهرين سيبرهنون لكم أنكم ستأخذون سنين حتى تعيدوا – بواسطة زيادة أجوركم – المصاريف المنفقة على المنظمة وعلى الاتحادات. ونحن كاشتراكيين نخبركم علاوة على مسالة النقود أنكم ستبقون عمالا وسيبقى الأسياد أسياداً كما كانوا قبلاً. وهكذا لا اتحاد بل سياسة! أليس الدخول في اتحاد هو عمل سياسي؟

يريد الاقتصاديون أن يبقى العمال في مجتمع كما كان مشكلاً ومؤلفاً من قبل.

ويريد الاشتراكيون أن يترك العمال المجتمع القديم لوحده وأن يدخلوا المجتمع الجديد الذي حضروه لهم.

ورغم الجهتين ورغم أفكارهم الطوباوية فإن الاتحاد سيتقدم وسيمتد كلما نمت الصناعة الحديثة. ولقد وصل الآن إلى درجة، والدرجة التي يصلها الاتحاد في أي بلد يبرهن عن المرتبة التي يمثلها في فوضى السوق العمالي. إن انكلترا التي وصلت صناعتها أعلى درجات النمو عندها أحسن و أكبر اتحادات منتظمة.

لا تقوم الاتحادات في انكلترا على مفاهيم بسيطة فتزول بزوال اضراب. لقد تشكلت اتحادات دائمة – نقابات العمال – تعمل كسلاح ضد المستخدمين. ونرى في الوقت الحاضر كل نقابات العمال المحلية انها نقطة ثقل في المجتمع الوطني لنقابات العمال ومركزها في لندت واعضائها ٨٠ الفاً. ان تنظيم هذه الاضرابات والاتحادات ونقابات العمال استمر وجوده بصراع العمال السياسي الذي يشكل الان حزباً قويا سياسياً باسم لائحة الحقوق.

إن أولى الصناعة محاولات العمال ليجتمعوا مع بعضهم كانت بشكل اتحادات. إن الصناعة ذات الانتاج الضخم تحصر في مكان واحد جماعة من الناس يجهلون بعضهم. وتقسم المنافسة لمصالحهم. لكن وجود الأجور – هذه المصلحة العامة التي تجمعهم ضد سيدهم – توحدهم وتجعل لهم فكرة واحدة للمقاومة وهي الاتحاد. وهكذا فالاتحاد يمتاز دوماًبهدف مضاعف: ان يضع حداص للمنافسة بين العمال حتى يستطيعوا ان يحققوا المنافسة العامة مع الرأسمالي. اذا كان اول هدف النقاومة عبارة عن تحقيق الأجورفان الاتحادات تشكل نفسها بجماعات كما ان الأسماليين بدورهم يتحدون وهدفهم اخضاع العمال، وتصبح وحدتهم اهم من مسالة الأجور. هذه حقيقة، حتى ان القتصاديين الانكليز يدهشون عندما يرون العمال يضحون قسماً كبيراً من اجورهم لأجل تجمعاتهم التي هي في نظر هؤلاء الاقتصاديين قد تاسست فقط لأجل الأجور. وفي هذا الصراع – وهو حرب مدنية حقيقية تتحد وتنمو كل العوامل الضرورية لمعركة مقبلة، وعندما تصل هذه النقطة يتخذ التجمع شكلاً سياسياً.

إن الأحوال الاقتصادية حولت مجموعة سكان القرى إلى عمال. وخلق اتحاد رأس المال لهذه المجموعة حالة عامة ومصالح عامة. وهذه المجموعة هي بذاتها طبقة ضد الرأسمال. ففي هذا الصراع تتحد هذه المجموعة وتشكل كطبقة لنفسها. وتصبح المصالح التي تدافع عنها مصالح طبقة. لكن صراع طبقة ضد طبقة يكون صراعاً سياسياً.

نجد في البرجوازية ناحيتين: إنها شكلت نفسها كطبقة في النظام الاقطاعي وفي الملكية المطلقة فشكلت طبقة وطفت وخدمت الاقطاعية والملكية لتجعل المجتمع مجتمعاً برجوازياً. وكانت أولى هاتين الناحيتين الاطول وكانت تحتاج لجهد اكبر. وابتدأ هذا باتحادات جزئية ضد الاسياد الاقطاعيين.

حاول الناس كثيراً ان يعرفوا حقبات التاريخ النختلفة التي مرت بها البرجوازية. من طورها كجماعة لتشكيلها كطبقة، ولكن عندما تكون المسألة مسألة دراسة الاضرابات والاتحادات واشكال اخرى تقوم بها البروليتاريا لينظموا انفسهم كطبقة فإن البعض يخافون والبعض ينظرون لهذه الدراسة بنوع من الحتقار والهزء.

إن وجود طبقة مظلومة هو الشرط الأساسي لكل مجتمع قائم على صراع الطبقات. وان تحرير الطبقة المظلومة يتطلب خلق مجتمع جديد. ولكي تكون الطبقة المظلومة قادرة ان تحرر نفسها فمن الضروري ان لا تكون القوى الانتاجية والعلاقات الاجتماعية الموجودة قادرة ان تكون جنباً إلى جنب. ان كل وسائل الانتاج، وات اعظم قوى منتجة هي الطبقة الثورية نفسها. ان تنظيم العوامل الثورية كطبقة يفترض وجود كل القوى الانتاجية التي يمكن خلقها في صدر المجتمع الجديد.

هل هذا يعني انه بعد سقوط المجتمع القديم ان طبقة جديدة ستكون قادرة على ادارة حكم سياسي قدير؟ كلا.

إن شرط تحرير الطبقة العاملة هو القضاء على طبقة، كما ان شرط تحرير الحالة الثالثة أي النظام البرجوازي كان القضاء على الملكيات وعلى كل الانظمة الأخرى.

إن الطبقة العاملة – وهي في طريق نموها – ستقيم مقام المجتمع المدني القديم تجمعاً يقضي على الطبقات وصراعها ولا تكون قوة سياسية كما ندعوها، طالما ان القوة السياسية هي الضغط القانوني على الصراع في مجتمع مدني.

إن الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية هو صراع طبقة ضد طبقة – صراع يؤدي غلى ثورة عامة- ليس مدهشاً ان مجتمعاً قائماً على صراع الطبقات يجب ان يؤدي غلى تناقص وحشي، غلى اصطدام جسد بجسد، كنتيجة محتومة له؟

لا تقل ان الحركة الاجتماعية تقضي على الحركة السياسية. لا توجد حركة سياسية الا وهي حركة اجتماعية.

إنه في نظام الاشياء فقط حيث لا توجد طبقات ولا صراع طبقات نجد ان التطورات الجتماعية ستظل ان تكون ثورات سياسية. وان اخر كلمات العلم الاجتماعي- لدى تنظيف المجتمع – ستكون:

«الصراع أو الموت، الاصطدام الدموي أو العدم. هكذا يجب أن نضع المسالة».

(جورج ساند)





اسم الكتاب كاملا: بؤس الفلسفة - الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون
كتبه ماركس في النصف الأول من سنة ١٨٤٧
نشر لأول مرة في باريس وبروكسيل، سنة ١٨٤٧
الناشر العربي: دار اليقظة العربية - سوريا - ودار مكتبة الحياة - لبنان - (الطبعة الثانية - 1979)
ترجمة: أندريه يازجي


eSource: Marxists Internet Archive
MarxEngels.public-archive.net #ME0153ar.html