بؤس الفلسفة الرد على فلسفة البؤس للسيد برودون
اكتشاف علمي
تناقض معنى قيمة الانتفاع وقيمة التبادل
«إن مقدرة كل المنتوجات، المنتوجات الطبيعية أو الصناعية، التي لها علاقة والتي هي ذات نفع عام لوجود الإنسان تحدد بقيمة الانتفاع، ومقدرة هذه المنتوجات أن تتبادل مع بعضها تتحدد بقيمة التبادل... وكيف تصبح قيمة الانتفاع قيمة تبادل؟ إن تكوين فكرة قيمة التبادل، لم تلق عناية كافية من الاقتصاديين فمن الضروري إذن أن ندرسها وبما أن عددا كبيرا من الأشياء التي احتاجها موجود في الطبيعة بكميات معتدلة أو بكميات قليلة جدا أو أنها غير موجودة إطلاقا، فأنا مجبر أن أعمل لإنتاج ما أحتاجه. وبما أنني لا أقدر على إنتاج أشياء كثيرة، فإنني أعرض على أناس غيري – أناس هم مساعدون لي في عوامل كثيرة ومتنوعة – أن يسلموني قسما من إنتاجهم وأسلمهم قسما من إنتاجي نتيجة للتبادل» برودون المجلد ١، الفصل ١١.
يتعهد برودون أن يشرح لنا قبل كل شيء طبيعة القيمة الازدواجية أي «التمييز في القيمة» ويتعهد أن يشرح لنا عملية تحويل قيمة الانتفاع إلى قيمة تبادل، فمن المهم إذن أن نشارك برودون في هذا التحويل. وما سيكتسب الآن هو كيفية تكميل هذا العمل بالنسبة لمؤلفنا.
إن عددا كبيرا من المنتوجات لا توجد في الطبيعة، بل هي منتوجات الصناعة وإذا كانت حاجيات الإنسان تتطلب أكثر من إنتاج الطبيعة لذلك فهو مجبر أن ينتج بواسطة الصناعة. وما هي هذه الصناعة بنظر برودون؟ وما هو أصلها؟ إن شخصا واحدا يشعر أنه بحاجة أن يحصل على أشياء كثيرة «لا يقدر أن ينتج أو يحصل على هذه الأشياء الكثيرة». ولكي نشبع حاجات كثيرة يعني افتراض أشياء كثيرة للإنتاج – ولا توجد منتوجات بدون إنتاج. ولا نتاج أشياء كثيرة يعني افتراض وجود أكثر من يد رجل واحد لتساعد على إنتاجها، لا بد أن يُفرض حالا إنتاج كامل قائم على تقسيم العمل، وهكذا فالحاجة كما يفترضها برودون تفترض التقسيم الكلي للعمل. ولدى افتراضك تقسيم العمل فإنك تحصل على التبادل. وكنتيجة تحصل على قيمة التبادل فالمرء يمكنه أن يكون قد افترض قيمة الانتفاع في البداية.
لكن برودون يفضل أن يدور حول الموضوع، والآن لنتبعه في كل دوراته التي ترجعه دوما إلى النقطة التي ابتدأ منها.
حتى أستطيع أن أتخلص من الحالة التي ينتج فيها كل شخص بمفرده لأصل إلى التبادل «على أن أدعو رفاقي ومساعديّ لأعمال متنوعة» هذا ما يقوله برودون فأنا إذن عندي مساعدين يقومون بأعمال مختلفة. ورغم كل هذا، فأنا وكل الآخرين، بالنسبة لافتراضات برودون، لا نكون قد كونّا إلا اشتراكية روبنسون كروزوإن وجود مساعدين غيري، ووجود الأعمال المتنوعة، ووجود تقسيم العمل والتبادل، يمكن الحصول عليها.
ولنستخلص ما قيل: أنا عندي بعض الحاجات التي تقوم على تقسيم العمل وعلى التبادل، وعندما اسبق وافترض هذه الحاجات يكون برودون قد سبق وافتراض التبادل، وهذا هو ما يهدف إليه «أن يلاحظ تكوين هذه الفكرة باعتناء أكثر مما اعتنى بها الاقتصاديون».
كان يقدر برودون أن يحول ويقلب نظام الأشياء دون أن يبدل ويغير دقة نتائجه. فلكي نشرح قيمة التبادل يجب أن يكون عندما تبادل. ولنشرح التبادل يجب أن يكون عندنا تقسيم العمل، ولنشرح تقسيم العمل يجب أن يكون عندنا حاجات تجعل تقسيم العمل ضروريا. ولنشرح هذه الحاجات يجب أن نسبق ونفترضها، إننا لا ننكرها – وهذا التحليل يناقض القاعدة الأولى في مقدمة برودون والتي تقول «لكي نسبق ونفترض وجود الله يعني نكرانه» المقدمة صفحة ١.
فكيف يقدر برودون وهو يقر بتقسيم العمل وكأنه شيء معروف أن يشرح قيمته التبادلية، هذه القيمة التي هي مجهولة دائما بالنسبة له؟
«إن رجل» يبتدئ «ويقترح على الرجال الآخرين أي مساعديه في أمور وأعمال أخرى» بأن يؤسسوا التبادل، أن يميزوا بين القيمة العادية وقيمة التبادل، ولدى قبول هذا التمييز المقترح نرى أن المساعدين الآخرين لم يتركوا لبرودون إلا أن يسجل الواقع وأن يؤكد ملاحظته في بحثه للاقتصاد السياسي «تكون فكرة القيمة». ولكن عليه أن يشرح لنا «تكوين» اقتراحه ويخبرنا أخيرا كيف يقدر الفرد وحده (روبنسون كروزو) أن يقترح فجأة على مساعديه ورفاقه ما مر معنا وكيف قبل هؤلاء المساعدون الفكرة بدون أي احتجاج؟
إن برودون لا يدخل في صلب هذه التفاصيل، ولكن ما يعمله هو أن يضع طابعا تاريخيا على واقع التبادل ليضعه بشكل حركة يقوم بها فريق ثالث لكي يتم تأسيس التبادل.
إن هذا نموذج عن «الطريقة التاريخية والوضعية» عند برودون الذي يعلم ويبشر باحتقار «الطرق التاريخية» عند ريكاردو وآدم سميث.
إن التبادل له تاريخ خاص به ولقد مر بأطوار مختلفة.
لقد مر وقت كالعصور الوسطى مثلا، عندما كان يتم التبادل نتيجة للزيادة التافهة التي كانت تطرأ لجهة الإنتاج على الاستهلاك.
وقد مر وقت أيضا عندما أصبح التبادل – كل المنتوجات وكل الوجود الصناعي – تحت تصرف التجارة أو كان الإنتاج تعتمد على التبادل. فكيف نقدر أن نفسر هده الخطوة الثانية للتبادل – القيمة الموجودة في السوق مرفوعة للقوة الثانية؟
لقد أجاب برودون بسرعة على كل هذا: لنفترض أن رجلا «اقترح على رجال آخرين مساعديه في أعمال متنوعة» أن يرفعوا القيمة الكائنة في السوق إلى القوة الثانية.
وأخيرا أتى وقت نرى فيه كل شيء كان يحسبه المرء غريبا قد أصبح يخضع للتبادل وأصبح واسطة للنقل أو أصبح غريبا عليه. وهذا هو الوقت الذي كانت فيه كل الأشياء تخضع للانتقال من شخص لشخص ولكنها لا تخضع للتبادل وكانت تعطى ولا تباع. وكان يحصل عليها ولكن لا تشترى وهذه الأشياء كانت الفضيلة والمحبة والمعرفة والضمير الخ.. وكان الوقت عندما أصبح كل شيء يخضع للتجارة، أنه وقت الفوضى العامة ووقت التأخير، إنه الوقت عندما أصبح لكل شيء – أخلاقي أو مادي – قيمة تخضع لعوامل السوق. فأصبحت هذه المفاهيم الجميلة تخضع لتأثيرات السوق وتنال قيمتها في السوق.
فكيف نقدر أن نشرح هذه الفكرة الجديدة والأخيرة للتبادل – أي القيمة الخاضعة للسوق ومرفوعة للقوة الثالثة.
يجيب برودون بسرعة على هذا: لنفترض أن شخصا اقترح على أشخاص آخرين، إلى مساعديه في أعمال متنوعة، أن يجعلوا من المحبة والفضيلة الخ... قيمة سوق أي قيمة تخضع لتقلبات السوق وأن يرفعوا قيمة التبادل للقوة الثالثة أي القوة الأخيرة.
نحن نرى أن «طريقة برودون التاريخية والوصفية» تطبق على كل شيء وتجيب على كل شرح وتشرح كل شيء، فإذا كانت طريقه، علاوة على كل شيء، تستعمل لشرح «تكوين الفكرة الاقتصادية» تاريخيا فهي تقول أن الرجل الذي يقترح على رجال آخرين «مساعديه في أعمال متنوعة» أن يكملوا هذا التكوين، ولدى تكميله يحققون هدف العمل.
نحن علينا أن نقبل «تكوين» فكرة قيمة التبادل كعمل تام وكامل، ويبقى علينا الآن أن نعرض العلاقة بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. ولنستمع لما يقوله برودون:
«لقد بحث الاقتصاديون جيدا المفهوم الازدواجي للقيمة، لكنهم لم يشيروا بدقة إلى طبيعة القيمة المتناقضة، ومن هنا يبتدئ نقدنا.. إن المقارنة بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل شيء بسيط، ولم ير الاقتصاديون بهذه المقابلة إلا عملية بسيطة: لكن نحن نظهر أن هذه البساطة تطوى في ثناياها عجيبة عميقة من واجبنا أن نتعمق ونخترقها... ولكي نضع الكلام بأشكال علمية نقول أن قيمة التبادل وقيمة الانتفاع هما في نسبة معاكسة الواحدة للأخرى».
فإذا كنا قد تفهمنا فكرة برودون نجد أنه يحاول أن يظهر أربع نقاط:
١– أن قيمة الانتفاع وقيمة التبادل يشكلان «مقارنة عجيبة» إنهما تناقضان بعضهما.
٢– أن قيمة الانتفاع وقيمة التبادل تتناقضان بنسبة معاكسة لبعضهما.
٣– لم يذكر الاقتصاديون ولم يلاحظوا هذا التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل.
٤– إن نقد برودون يبتدئ في نهايته.
ونحن سنبتدئ في النهاية، ولكي نبرر موقف الاقتصاديين من اتهامات برودون سنستمع لكلام اقتصاديين معروفين جيدا.
سيسموندي Sismondi: إن التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل هو الذي نقـّص قيمة كل شيء، (كتابه: دراسات). Etudes, Vol 2, P. 162. Brussels Edition
لوردردال Laurderdale: نرى نسبيا أن غنى الأفراد يزداد بزيادة قيمة السلع وتنخفض ثروة المجتمع وعندما تنقص نسبيا مجموعة الثروات الفردية، ولدى تخفيض وتنقيض قيمة السلعة يزداد الغنى «يكثر». كتابه: دراسات عن أصل وطبيعة الثروة العامة. Recherches sur la nature et L'origine de la richesse publique. Paris 1808 P. 33.
يعترف سيسموندي من جراء بحثه للتناقض بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع أن انخفاض الواردات يتناسب مع زيادة الإنتاج.
لقد أسس لودرال طريقته على التعاكس النسبي بين نوعي القيمة. وكان مبدؤه شعبيا زمن ريكاردو حتى أن ريكاردو نفسه استطاع أن يتكلم عن هذا المبدأ وكأنه شيء معروف. تزيد الثروة في التفريق بين القيمة والثروة وبتنقيص كمية السلع أي الأشياء الضرورية والمناسبة والممتعة لحياة البشر، ريكاردو في كتابه: مبادئ الاقتصاد السياسي. Recardo, Principes de l'économie politique, Paris 1835 Vol 2.
لقد رأينا الآن أن الاقتصاد قبل برودون يتكلمون عن التناقص بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. ولننظر الآن كيف يشرح برودون هذا التناقض.
إن قيمة التبادل لمنتوج تنخفض عندما يزداد العرض وعندما يبقى الطلب كما كان، أي أنه كلما كان الإنتاج غزيرا بالنسبة للعرض كلما انخفضت قيمته التبادلية أي كلما انخفض سعره. والعكس بالعكس. وكلما قل العرض بالنسبة للطلب كلما ارتفعت قيمة التبادل أو المنتوج المعروض: أي كلما قل عرض المنتوجات بالنسبة للطلب كلما ارتفعت الأسعار. إن قيمة التبادل لإنتاج معين يعتمد على كثرته أو قلته ويكون دوما متعلقا بالنسبة للطلب. خذ منتوجا ليس كثيرا ولا قليلا واجعله فريدا من نوعه، تجد أن هذا المنتوج يكون أغزر وأكثر إذا لم يكن هناك طلب عليه. ومن الناحية الأخرى، خذ منتوجا ينتج بالملايين، فإنك ستعده نادرا وقليلا إذا لم يكن كافيا لإشباع الطلب أي إذا كان الطلب كثيرا عليه.
هذه كلها تعد حقائق ثابتة، ورغم هذا نعيدها حتى نسهل فهم أعاجيب وأسرار ألغاز برودون.
«وهكذا إذا تبعنا المبدأ حتى نتائجه الأخيرة فإننا سنصل إلى النتيجة المنطقية وهي، أن الأشياء التي لا يستغنى عن استعمالها والتي لا تحد كمياتها يمكن الحصول عليها بلا شيء، والأشياء ذات النفع القليل والتي تمتاز بندرتها وقلتها تكون ذات قيمة لا تعد ولا تحصى. ولكي تتغلب على الصعوبات نقول أن هذه الأقوال المتطرفة ليست واقعية: فمن جهة لا نجد إنتاجا بشريا يمكن أن يكون غير محدود الطاقة ومن جهة ثانية نجد أن أقل الأشياء ندرة يجب أن تكون نافعة لدرجة ما وإلا لكانت عديمة النفع. قيمة الانتفاع وقيمة التبادل مرتبطتان ببعضهم». المجلد الأول صفحة ٩٣
ماذا نفعل بالصعوبات التي تتعلق ببرودون؟ لقد نسي كل ما يتعلق بالطلب وأن الشيء يكون نادرا أو عزيزا إذا كان مطلوبا. وعندما يترك فكرة الطلب يقول أن قيمة التبادل تعني الندرة أو القلة، ونراه يقول أن قيمة الانتفاع تعني الغزارة أو الكثرة. وفي الواقع عندما نقول أن الأشياء «التي منفعتها عدم وقليلة تمتاز بقيمة لا تحصى» نصرح أن قيمة التبادل تكون نادرة. «الندرة والقلة القصوى ينقصها لا شيء» تعني الندرة أو القلة. «القيمة التي لا تعد» هي أعلى من قيمة التبادل، وهي قيمة تبادل. وهو يعادل بين هاتين الحالتين. وهكذا نرى أن قيمة التبادل والندرة هي شروط واحدة متعادلة، وعندما نصل لهذه النتائج المتطرفة نجد برودون يحمل هذه التعابير إلى أقصاها ولكنه لا يحمل الحقائق إلى أقصاها، وهكذا يبرهن على بلاغته ولكنه لا يبرهن عن منطقه. إنه يكتشف من جديد اقتراحاته الأولى مجردة عن الواقع بينما يفكر أنه قد اكتشف نتائج جديدة. ونحن نشكره لأنه عني بقيمة التبادل ما عناه بالغزارة أو بالكثرة.
بعد أن رأينا قيمة التبادل والندرة متعادلتين في المعنى، وأن قيمة الانتفاع والغزارة متعادلين في المعنى، نجد أن برودون يدهش لأنه لا يجد أن قيمة الانتفاع تعادل الندرة وقيمة التبادل ولا يجد أن قيمة التبادل تعني الغزارة وقيمة الانتفاع، وإذ يرى أن هذه الأضداد يستحيل تطبيقها لذلك لا يجد مفرا إلا الالتجاء للألغاز. إن القيمة التي لا تحد موجودة بالنسبة له، وهذا لأن الشارين غير موجودين ولأنه لا يجد شارين طالما أنه لا يهتم ولا يأخذ الطلب بعين الاعتبار.
ونجد من جهة أخرى أن الغزارة في نظر برودون تبدو كأنها شيء داخلي. فهو ينسى أنه يوجد أناس ينتجونها ومن مصلحتهم ألا يهملوا الطلب، وإلا فكيف يستطيع برودون أن يقول أن الأشياء التي هي نافعة جدا يجب أن يكون لها سعر منخفض جدا أو أنها لا تكلف شيئا؟ فعلى العكس، عليه أن يستنتج أن الغزارة أي أن إنتاج الأشياء النافعة جدا يجب أن ترتبط بأسعارها، ولذلك يجب رفع قيمتها التبادلية.
كان زارعو الكرمة الفرنسيون يطلبون قانونا يمنع غرس الكرمة الجديدة. وكان الهولنديون يطلبون أن يحرقوا التوابل الآسيوية! إن هؤلاء كانوا يحاولون أن يقللوا الغزارة أي الكثرة حتى يرفعوا قيمة التبادل. وكان يعمل بهذا المبدأ طوال القرون الوسطى، هذا المبدأ الذي كان يحدد بواسطة القوانين عدد الشغيلة المياومة، الذين كان المعلم يشغلهم وكان يحدد عدد الآلات التي يمكن استعمالها (راجع اندرسون، تاريخ التجارة).
بعد أن مثلنا الغزارة بقيمة الانتفاع والندورة بقيمة التبادل – ولا شيء أسهل من البرهان على أن الغزارة والقلة هما نسبتان متعاكستان – نجد برودون يعني أن قيمة الانتفاع هي العرض وأن قيمة التبادل هي الطلب. ولكي يظهر وجه التعاكس بصورة أوضح فإنه يستعيض عنها بتعبير جديد، يستعمل «قيمة التقدير» Estimation Value عوضا من قيمة التبادل. لقد انتقلت المعركة الآن من موضعها وأصبح عندنا من جهة المنفعة (قيمة الانتفاع، والعرض) ومن جهة ثانية عندنا التقدير (قيمة التبادل والطلب).
ومن يقدر أن يصالح هاتين القوتين المتناقضتين؟ وماذا نقدر أن نعمل ليتفقا؟ وهل نقدر أن نجد فيهما ولو نقطة للمقابلة؟
«بالتأكيد» يصرخ برودون «توجد طريقة واحدة وهي، (الإرادة الحرة) والسعر الذي نستخلصه من المعركة بين العرض والطلب، بين المنفعة والتقدير ليس إلا تعبيرا للعدالة الأبدية».
ويتابع برودون ليكمل تعاكساته:
«بمقدرتي كتاجر أن أكون قاضيا لحاجاتي، قاضيا لاختار الشيء، قاضيا للسعر الذي أريد أن أدفعه ومن جهة ثانية، بمقدرتك كمنتج حر أن تكون سيد وسائل التنفيذ وكنتيجة تحصل على السلطة التي تساعدك على تخفيف مصاريفك» المجلد ١، صفحة ٤١.
وبما أن الطلب أو قيمة التبادل تعني التقدير نجد برودون يقول:
«من المبرهن أن حرية الإرادة عند الإنسان هي التي تخلق التناقض بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. فكيف نقدر أن نقضي على هذا التناقض طالما أن الإرادة الحرة موجودة وكائنة؟ وكيف نضحي بالأخيرة (أي الإرادة الحرة) دون أن نضحي بالإنسانية». المجلد ١، صفحة ٤١.
وهكذا لا نجد منفذا. يوجد صراع بين قوتين لا تتعادلان صراع بين المنفعة والتقدير. بين الشاري الحر والمنتج الحر.
والآن لننظر إلى الأشياء بإمعان أكثر.
إن العرض لا يمثل المنفعة تماما، والطلب لا يمثل التقدير تماما، ألا يعرض الطالب أيضا منتوجا هو النقد وكعارض لا يمثل بالنسبة لبرودون، المنفعة أو قيمة الانتفاع!
ألا يطلب العارض منتوجا، ألا يطلب العلامة التي تمثل كل المنتوجات وهي النقود؟ ألا يصبح عندئذ ممثل التقدير أي قيمة التقدير وقيمة التبادل؟
إن الطلب هو بحد ذاته العرض، والعرض بحد ذاته الطلب، وهكذا فإن تعاكس نظرية برودون – عندما يقارن العرض بالمنفعة والطلب بالتقدير – ليس إلا فكرة مجردة ضارة.
إن ما يدعوه برودون «قيمة الانتفاع» يدعوه الاقتصاديون «قيمة التقدير» وهم على حق بهذه التسمية. ونحن الآن نعود إلى ما يقوله ستورش Storch في كتابه دراسة الاقتصاد السياسي صفحة ٤٨ و٤٩.
تكون الحاجات بالنسبة لستورش أشياء نشعر أننا نحتاجها، وتكون أشياء تنسب لها القيمة أي أنها ذات قيمة. وهناك كثير من الأشياء التي لها قيم لأنها تشبع حاجات يخلقها التقدير. وتقدير حاجاتنا يمكن أن يتبدل، إذن منفعة الأشياء التي تعبر عن النسبة بين الأشياء يمكن أن تتبدل. إن الحاجات الطبيعية تتغير باستمرار والواقع أن الأشياء التي يحتاجها الشعب والتي يعدها مهمة تتغير دوما.
إن النزاع هنا لا يقوم بين المنفعة والتقدير بل يقوم بين القيمة في السوق التي يطلبها العارض وبين القيمة في السوق التي يعرضها الطالب. فقيمة المنتوج التبادلية تكون كل مرة حاصل هذه المتناقضات.
وفي تحليلنا الأخير نقول أن الطلب والعرض يخلقان الإنتاج والاستهلاك – الإنتاج والاستهلاك المبنيين على التبادل الفردي.
إن المنتوج المعروض لا يكون نافعا بحد ذاته، فالمستهلك هوالذي يحدد منفعته. وحتى لو كانت منفعة المنتوج قائمة فليس من الضروري أن تتمثله المنفعة ولقد تبدلت هذه المنفعة خلال الإنتاج بتكاليف الإنتاج، فالمواد الأولية وأجور العمال وهذه كلها تؤلف قيم السوق. فالإنتاج إذن يمثل في نظر المنتج مجموع القيم التي ستعرض في السوق. وما يعرضه المنتج لا يكون شيئا نافعا بل يكون فوق كل شيء قيمة تفرض في السوق.
وفيما يتعلق بالطلب، يكون الطلب ذا تأثير في الأحوال التي تتم فيها وسائل التبادل. وتؤلف هذه الوسائل بحد ذاتها المنتوجات نفسها، وقيمة السوق.
وفيما يتعلق بالطلب والعرض، نجد من جهة منتوجا له تكاليف قيمة قيم السوق والحاجات لبيعه ومن جهة ثانية نجد الوسائل التي خلقت تكاليف قيم السوق، والرغبة في الشراء.
إن برودون يضع الشاري الحر أمام المنتج الحر، ويطبق عليهما أوصافا ميتافيزيقية. وهذا ما يجعله يقول: «من الواضح والمعروف أن الإرادة الحرة عند الإنسان هي التي تخلق التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل» المجلد ١، صفحة ٤١.
عندما ينتج المنتج في مجتمع قائم على تقسيم العمل وعلى التبادل (وهذا هو افتراض برودون) يجد نفسه مجبرا على البيع. إن برودون يجعل المنتج سيدا لوسائل الإنتاج، لكنه يوافق معنا أن وسائل الإنتاج هي منتوجات يحصل عليها من الخارج، وبالنسبة للإنتاج الحاضر لا يكون المنتج حرا في إنتاج الكمية التي يريدها. إن درجة تطور ونمو القوى الإنتاجية تجبره أن ينتج بالنسبة لمقياس معين.
والمستهلك لا يملك حرية أكثر من المنتج. وحكمه هذا يعتمد على وسائله وحاجاته – ووسائله وحاجاته تعتمد على مركزه الاجتماعي، ومركزه الاجتماعي يعتمد على التنظيم الاجتماعي الكامل. والواقع أن العامل الذي يشتري بطاطا والمرأة التي تشتري خيوطا يتبعان كلاهما حكمهما على الأشياء. لكن الاختلاف في مقدار حكمهما يتوقف على المراكز التي يشغلانها في العالم، وهذه المراكز هي نتاج التنظيم الاجتماعي.
هل أن كل الحاجات قائمة على التقدير أو على التنظيم العام للإنتاج؟ إن الحاجات غالبا تقوم مباشرة نتيجة للإنتاج أو من حالة الأعمال القائمة على الإنتاج. فالتجارة العالمية تقوم تقريبا على الحاجات ولا تقوم على الاستهلاك الفردي بل على الإنتاج. ولنختار مثالا آخر، ألا تكون الحاجة للمحامين نتيجة لوجود القانون المدني الذي يعبر عن تطور الملكية أو تطور الإنتاج.
لم يكن هذا حلا كافيا لبرودون أن يقلل من العوامل المذكورة بالنسبة لعلاقة العرض والطلب. إنه يحمل الفكر المجرد إلى أبعد حدوده عندما يُذيب المنتجين بشكل منتج واحد، وعندما يذيب كل المستهلكين في مستهلك واحد، وعندما يتم صراعا بين هذه الشخصيات الوهمية. ففي العالم الواقعي تحدث الأشياء ولكن بشكل آخر. فالمنافسة بين العارضين والمنافسة بين الطالبين تشكل قسما ضروريا من الصراع بين الشارين والبائعين، وتكون قيمة السوق نتيجة لهذا الصراع.
وبعد أن يكون برودون قد خفف من قيمة المنافسة وتكاليف الإنتاج يقدم لنا قاعدته الفارغة عن العرض والطلب:
يقول «العرض والطلب هما أشكال احتفالية Ceremonial forms تعمل على وضع قيمة الانتفاع وقيمة التبادل وجها لوجه، وتحاول أن تصلح بينهما، إنهما – أي العرض والطلب – قطبا الكهرباء اللذان عندما يتصلان، يجب أن ينتجا المظهر الذي ندعوه التبادل». المجلد ١ صفحة ٤٩ و٥٠.
ويقدر كل شخص أن يقول أن التبادل هو شكل احتفالي يعمل على تعريف وتقديم المستهلك الشيء المعد للاستهلاك. ويستطيع كل فرد أن يقول أيضا أن كل العلاقات الاقتصادية هي أشكال احتفالية تخدم مصلحة الاستهلاك، وليس العرض والطلب علاقات بين منتوج معطى أكثر مما هما تبادلات بين أفراد.
فماذا يتضمن، ديالكتيك برودون بعد هذا البحث؟ إن هذا ديالكتيك يبحث في المقارنة بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل، والمقارنة بين العرض والطلب، والمقارنة بين المجرد والأفكار المتناقضة (مثل الندرة والغزارة أي القلة والكثرة) والمقارنة بين المنفعة والتقدير، والمقارنات بين مستهلك ومنتج وكلاهما فرسا الإرادة الحرة.
إلام كان يهدف برودون؟
كان يظن أنه يعرف ويدخل عاملا هاما في أبحاثه وهو تكاليف الإنتاج ويعني بها نتيجة تناقض Synthesis قيمة الانتفاع وقيمة التبادل. وبنظره إن تكاليف الإنتاج تؤلف وتشكل القيمة الناتجة Synthetic أو القيمة المشكلة Constituted.
|